وفيها دليل على ، لقوله صلى الله عليه وسلم لسعية لما ادعى نفاد المال : ( الأخذ بالقرائن في الاستدلال على صحة الدعوى وفسادها ) . العهد قريب ، والمال أكثر من ذلك
وكذلك فعل نبي الله سليمان بن داود في استدلاله بالقرينة على تعيين أم الطفل الذي ذهب به الذئب ، وادعت كل واحدة من المرأتين أنه ابنها ، واختصمتا في الآخر ، فقضى به داود للكبرى ، فخرجتا إلى سليمان ، فقال : ( بم قضى بينكما نبي الله ، فأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا تفعل رحمك الله هو ابنها ، فقضى به للصغرى ) . فاستدل بقرينة الرحمة والرأفة التي في قلبها ، وعدم سماحتها بقتله ، وسماحة الأخرى بذلك لتصير أسوتها في فقد الولد على أنه ابن الصغرى .
فلو اتفقت مثل هذه القضية في شريعتنا ، لقال أصحاب أحمد [ ص: 133 ] والشافعي ومالك رحمهم الله : عمل فيها بالقافة ، وجعلوا القافة سببا لترجيح المدعي للنسب رجلا كان أو امرأة .
قال أصحابنا : وكذلك لو ولدت مسلمة وكافرة ولدين ، وادعت الكافرة ولد المسلمة ، وقد سئل عنها أحمد ، فتوقف فيها . فقيل له : ترى القافة ؟ فقال : ما أحسنها ، فإن لم توجد قافة ، وحكم بينهما حاكم بمثل حكم سليمان ، لكان صوابا ، وكان أولى من القرعة ، فإن القرعة إنما يصار إليها إذا تساوى المدعيان من كل وجه ولم يترجح أحدهما على الآخر ، فلو ترجح بيد أو شاهد واحد أو قرينة ظاهرة من لوث أو نكول خصمه عن اليمين ، أو موافقة شاهد الحال لصدقه ، كدعوى كل واحد من الزوجين ما يصلح له من قماش البيت والآنية ، ودعوى كل واحد من الصانعين آلات صنعته ، ودعوى حاسر الرأس عن العمامة عمامة من بيده عمامة ، وهو يشتد عدوا ، وعلى رأسه أخرى ، ونظائر ذلك ، قدم ذلك كله على القرعة .
ومن تراجم على قصة أبي عبد الرحمن النسائي سليمان ( هذا باب : الحكم يوهم خلاف الحق ، ليستعلم به الحق ) ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقص علينا هذه القصة لنتخذها سمرا ، بل لنعتبر بها في الأحكام ، بل الحكم بالقسامة وتقديم أيمان مدعي القتل هو من هذا استنادا إلى القرائن الظاهرة ، بل ومن هذا رجم الملاعنة إذا التعن الزوج ، ونكلت عن الالتعان . فالشافعي ومالك رحمهما الله ، يقتلانها بمجرد التعان الزوج ونكولها استنادا إلى اللوث الظاهر الذي حصل بالتعانه ونكولها .