وذلك أن رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها ، وكانت تلك عادته مع نسائه ، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل فخرجت عائشة لحاجتها ، ثم رجعت ، ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه ، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه ، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها ، وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ، ولو كان الذي حمله واحد أو اثنان لم يخف عليهما الحال ، فرجعت عائشة إلى منازلهم ، وقد أصابت العقد ، فإذا ليس بها داع ولا مجيب ، فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها ، فيرجعون في طلبها ، والله غالب على أمره يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء ، فغلبتها عيناها ، فنامت ، فلم تستيقظ إلا بقول عائشة : ( صفوان بن المعطل إنا لله وإنا إليه راجعون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في " صحيح أبي حاتم " . وفي " السنن " : [ ص: 233 ] فلما رآها عرفها ، وكان يراها قبل نزول الحجاب ، فاسترجع ، وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها وما كلمها كلمة واحدة ، ولم تسمع منه إلا استرجاعه ، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته ، وما يليق به ، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا ، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه ، فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ، ويشيعه ويذيعه ، ويجمعه ويفرقه ، وكان أصحابه يتقربون به إليه . فلما قدموا المدينة أفاض في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، ثم استشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه أهل الإفك علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا ، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء ، فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس ، فأشار بحسم الداء ، وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ، ومنزلته عنده ، ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء ، وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها به أرباب الإفك ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا ، وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة ، وهي تحت رسوله ، ومن قويت معرفته لله ومعرفته لرسوله ، وقدره عند الله في قلبه قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لما سمعوا ذلك : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ النور : 16 ] .
[ ص: 234 ] وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به ، وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا ، فمن ظن به سبحانه هذا الظن فقد ظن به ظن السوء ، وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى : ( الخبيثات للخبيثين ) [ النور : 26 ] ، فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم ، وفرية ظاهرة .
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها ، وسأل عنها وبحث واستشار ، وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به ، وهلا قال : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) كما قاله فضلاء الصحابة ؟
فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها ، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين ، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها وقضاها ، وتظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده ، ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا ، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها ، وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها ، والافتقار إلى الله والذل له وحسن الظن به والرجاء له ، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق ، ولهذا وفت هذا المقام حقه لما ) . قال لها أبواها : قومي إليه ، وقد أنزل الله عليه براءتها ، فقالت : ( والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي