فصل
وكان الخندق أن سبب غزوة اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد ، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين ، فخرج لذلك ، ثم رجع للعام المقبل خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع ، وغيرهم إلى قريش بمكة يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 242 ] ويؤلبونهم عليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، ثم خرجوا إلى غطفان ، فدعوهم ، فاستجابوا لهم ، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك ، فاستجاب لهم من استجاب ، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران ، وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة ، وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن . وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف .
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة ، فأشار عليه بحفر خندق يحول بين العدو وبين سلمان الفارسي المدينة ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبادر إليه المسلمون ، وعمل بنفسه فيه ، وبادروا هجوم الكفار عليهم ، وكان في حفره من آيات نبوته ، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به ، وكان حفر الخندق أمام سلع ، وسلع : جبل خلف ظهور المسلمين ، والخندق بينهم وبين الكفار .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فتحصن بالجبل من خلفه ، وبالخندق أمامهم .
وقال : خرج في سبعمائة ، وهذا غلط من خروجه يوم ابن إسحاق أحد .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري ، فجعلوا في آطام المدينة ، واستخلف عليها . ابن أم مكتوم
وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة فدنا من حصنهم ، فأبى كعب بن أسد أن يفتح له ، فلم يزل يكلمه حتى فتح له ، فلما دخل عليه قال : لقد جئتك بعز الدهر جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها لحرب محمد ، قال كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه ، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء . فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل مع [ ص: 243 ] المشركين في محاربته ، فسر بذلك المشركون ، وشرط كعب على حيي أنه إن لم يظفروا بمحمد أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه ، فيصيبه ما أصابه ، فأجابه إلى ذلك ، ووفى له به .
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بني قريظة ونقضهم للعهد ، فبعث إليهم السعدين ، ، وخوات بن جبير ليعرفوا : هل هم على عهدهم أو قد نقضوه ؟ فلما دنوا منهم ، فوجدوهم على أخبث ما يكون ، وجاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرفوا عنهم ، ولحنوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا ، فعظم ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( وعبد الله بن رواحة الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ) واشتد البلاء ، ونجم النفاق ، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة ، وقالوا : ( إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) [ الأحزاب : 13 ] ، وهم بنو سلمة بالفشل ، ثم ثبت الله الطائفتين .
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين ، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود ، وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق ، فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فاقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع ، ودعوا إلى البراز ، فانتدب لعمرو رضي الله عنه ، فبارزه ، فقتله الله على يديه ، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ، وانهزم الباقون إلى أصحابهم ( وكان شعار المسلمين يومئذ " حم لا ينصرون ) . علي بن أبي طالب
[ ص: 244 ] ولما طالت هذه الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، وينصرفا بقومهما ، وجرت المراوضة على ذلك ، فاستشار السعدين في ذلك ، فقالا : يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة ، وإن كان شيئا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه ، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف ، فصوب رأيهما ، وقال : ( ) . إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة
ثم إن الله عز وجل - وله الحمد - صنع أمرا من عنده خذل به العدو ، وهزم جموعهم ، وفل حدهم ، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، فمرني بما شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ) ، فذهب من فوره ذلك إلى إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة بني قريظة ، وكان عشيرا لهم في الجاهلية ، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه ، فقال : يا بني قريظة إنكم قد حاربتم محمدا ، وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمدا ، فانتقم منكم ، قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن قالوا : لقد أشرت بالرأي ، ثم مضى على وجهه إلى قريش ، فقال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم ، قالوا : نعم . قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يمالئونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان ، فقال لهم مثل ذلك ، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى اليهود : إنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكراع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز [ ص: 245 ] محمدا ، فأرسل إليهم اليهود : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن ، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش : صدقكم والله نعيم ، فبعثوا إلى يهود ، إنا والله لا نرسل إليكم أحدا ، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا ، فقالت قريظة : صدقكم والله نعيم ، فتخاذل الفريقان ، وأرسل الله على المشركين جندا من الريح ، فجعلت تقوض خيامهم ، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها ، ولا طنبا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار ، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحال ، وقد تهيئوا للرحيل ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره برحيل القوم ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رد الله عدوه بغيظه لم ينالوا خيرا ، وكفاه الله قتالهم ، فصدق وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، فدخل المدينة ، ووضع السلاح ، حذيفة بن اليمان جبريل عليه السلام وهو يغتسل في بيت ، فقال : أوضعتم السلاح أم سلمة ! إن الملائكة لم تضع بعد أسلحتها انهض إلى غزوة هؤلاء يعني فجاءه بني قريظة ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بني قريظة من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلين العصر إلا في ) ، فخرج المسلمون سراعا ، وكان [ ص: 246 ] من أمره وأمر بني قريظة ما قدمناه ، واستشهد يوم الخندق ، ويوم قريظة نحو عشرة من المسلمين .