فصل
وفيها مكة فتحت عنوة ، كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن البيان الصريح بأن الشافعي وأحمد في أحد قوليه ، وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور ، ولما استهجن القول بأنها فتحت صلحا ، حكى قول أبو حامد الغزالي أنها فتحت عنوة في " وسيطه " ، وقال : هذا مذهبه . الشافعي
قال أصحاب الصلح : لو فتحت عنوة ، لقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين كما قسم خيبر ، وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات ، فكان يخمسها ويقسمها ، قالوا : ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم فأمنهم كان هذا عقد صلح معهم ، قالوا : ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها ، وكانوا أحق بها [ ص: 378 ] من أهلها ، وجاز إخراجهم منها ، فحيث لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بهذا الحكم بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها ، وهي بأيدي الذين أخرجوهم وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها ، والانتفاع بها ، وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة ، وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها ، فقال : ( أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ) . من دخل دار
قال أرباب العنوة : لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره وإغلاقه بابه وإلقائه سلاحه فائدة ، ولم يقاتلهم حتى قتل منهم جماعة ، ولم ينكر عليه ، ولما قتل خالد بن الوليد مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما ، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستثني فيه هؤلاء قطعا ، ولنقل هذا وهذا ، ولو فتحت صلحا ، لم يقاتلهم ، وقد قال : ( ) ، ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإذن في القتال ، لا في الصلح ، فإن الإذن في الصلح عام . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم
وأيضا فلو كان فتحها صلحا ، لم يقل : إن الله قد أحلها له ساعة من نهار ، فإنها إذا فتحت صلحا ، كانت باقية على حرمتها ، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة ، وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حراما ، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى .
وأيضا فإنها لو فتحت صلحا لم يعبئ جيشه : خيالتهم ورجالتهم ميمنة وميسرة ، ومعهم السلاح ، وقال : ( لأبي هريرة قريش وأتباعهم " ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : " احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا " ، حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أغلق بابه فهو آمن ) وهذا محال أن يكون مع الصلح ، فإن كان قد تقدم صلح - وكلا - فإنه ينتقض بدون هذا . اهتف لي بالأنصار " ، فهتف بهم فجاءوا ، فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " أترون إلى أوباش
[ ص: 379 ] وأيضا فكيف يكون صلحا ، وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب ، ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها ، كما حبسها يوم صلح الحديبية ، فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقا ، فإن القصواء لما بركت به قالوا : خلأت القصواء قال : ( ) ثم قال : ( ما خلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) . والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها
وكذلك جرى عقد الصلح بالكتاب والشهود ، ومحضر ملإ من المسلمين والمشركين ، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة ، فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يشهد عليه ، ولا يحضره أحد ، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه ، هذا من الممتنع البين امتناعه ، وتأمل قوله ( مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ) كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عنوة ، فحبسه عنهم ، وسلط رسوله والمؤمنين عليهم ، حتى فتحوها عنوة بعد القهر وسلطان العنوة ، وإذلال الكفر وأهله ، وكان ذلك أجل قدرا ، وأعظم خطرا ، وأظهر آية وأتم نصرة ، وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رق الصلح ، واقتراح العدو وشروطهم ، ويمنعهم سلطان العنوة وعزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله ، وأعز به دينه ، وجعله آية للعالمين . إن الله حبس عن
قالوا : وأما قولكم : إنها لو فتحت عنوة لقسمت بين الغانمين ، فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها ، وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك ، وأن ، وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين ، فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها بلالا وأصحابه لما طلبوا من رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوة ، وهي عمر بن الخطاب الشام وما حولها ، وقالوا له خذ خمسها واقسمها ، فقال عمر : هذا غير المال ، ولكن أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين ، فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم : اقسمها بيننا ، فقال عمر : [ ص: 380 ] ( اللهم اكفني بلالا وذويه ) فما حال الحول ومنهم عين تطرف ، ثم وافق سائر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - على ذلك ، وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق ، وأرض فارس ، وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة .
ولا يصح أن يقال : إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم ، فإنهم قد نازعوه في ذلك ، وهو يأبى عليهم ، ودعا على بلال وأصحابه - رضي الله عنهم - وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق ، إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم ، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة ، أو صبي صغير ، والمقاتلة لا شيء بأيديهم ، فكان في ذلك أعظم الفساد وأكبره ، وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه ، فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض ، وجعلها وقفا على المقاتلة ، تجري عليهم فيئا حتى يغزو منها آخر المسلمين ، وظهرت بركة رأيه ويمنه على الإسلام وأهله ، ووافقه جمهور الأئمة . واختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة ، فظاهر مذهب وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة ، لا تخيير شهوة ، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها ، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها ، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة ، فإنه قسم أرض الإمام أحمد قريظة والنضير ، وترك قسمة مكة ، وقسم بعض خيبر ، وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين .
وعن أحمد رواية ثانية ، أنها تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشئ الإمام وقفها ، وهي مذهب مالك .
وعنه رواية ثالثة : أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول ، إلا أن يتركوا حقوقهم منها ، وهي مذهب . الشافعي
وقال : الإمام مخير بين القسمة وبين أن يقر أربابها فيها بالخراج ، وبين أن يجليهم عنها وينفذ إليها قوما آخرين يضرب عليهم الخراج . أبو حنيفة
[ ص: 381 ] وليس هذا الذي فعل عمر - رضي الله عنه - بمخالف للقرآن ، فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها ، ولهذا قال عمر : إنها غير المال ، ويدل عليه أن ، بل هو من خصائصها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته : ( إباحة الغنائم لم تكن لغير هذه الأمة ) وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل ، إذا استولوا عليها عنوة ، كما أحلها لقوم وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي موسى ، فلهذا قال موسى لقومه ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) [ المائدة : 21 ] فموسى وقومه قاتلوا الكفار ، واستولوا على ديارهم وأموالهم ، فجمعوا الغنائم ، ثم نزلت النار من السماء فأكلتها ، وسكنوا الأرض والديار ولم تحرم عليهم ، فعلم أنها ليست من الغنائم ، وأنها لله يورثها من يشاء .