فصل
ومما وقع في هذه الغزوة ، إباحة متعة النساء ، ثم حرمها قبل خروجه من مكة ، واختلف في ، على أربعة أقوال : الوقت الذي حرمت فيه المتعة
أحدها : أنه يوم خيبر ، وهذا قول طائفة من العلماء . منهم وغيره . الشافعي
والثاني : أنه عام فتح مكة ، وهذا قول وطائفة . ابن عيينة
والثالث : أنه عام حنين ، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني ، لاتصال غزاة حنين بالفتح .
والرابع : أنه عام حجة الوداع ، وهو وهم من بعض الرواة ، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع ، كما سافر وهم معاوية من عمرة الجعرانة إلى حجة الوداع ، حيث قال : قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص على المروة في حجته ، وقد تقدم في الحج ، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ، ومن مكان إلى مكان ، ومن واقعة إلى واقعة كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم .
والصحيح : أن المتعة إنما حرمت عام الفتح ؛ لأنه قد ثبت في " صحيح " أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذنه ، ولو كان التحريم زمن مسلم خيبر ، لزم النسخ مرتين ، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقع مثله فيها ، وأيضا : فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات ، وإنما كن يهوديات ، وإباحة نساء أهل [ ص: 404 ] الكتاب لم تكن ثبتت بعد ، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ المائدة : 5 ] ، وهذا متصل بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 3 ] ، وبقوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) [ المائدة : 3 ] ، وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع أو فيها ، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة زمن خيبر ، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح ، وبعد الفتح استرق من استرق منهن وصرن إماء للمسلمين .
فإن قيل : فما تصنعون بما ثبت في " الصحيحين " من حديث : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( علي بن أبي طالب خيبر ، وعن " أكل لحوم الحمر الإنسية ) ، وهذا صحيح صريح ؟ . نهى عن متعة النساء يوم
قيل : هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين هذا أحدهما . والثاني : الاقتصار على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، هذه رواية عن ابن عيينة . قال الزهري : قال قاسم بن أصبغ : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن سفيان بن عيينة خيبر ، لا عن نكاح المتعة ، ذكره أبو عمر ، وفي " التمهيد " : ثم قال على هذا أكثر الناس ، انتهى ، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه : خيبر والحمر الأهلية ، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر ، فجاء بالغلط البين .
فإن قيل : فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد ، وأين المتعة من تحريم الحمر ؟ قيل : هذا الحديث رواه - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه علي بن أبي طالب في [ ص: 405 ] المسألتين ، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر ، فناظره عبد الله بن عباس في المسألتين ، وروى له التحريمين ، وقيد تحريم الحمر بزمن علي بن أبي طالب خيبر ، وأطلق تحريم المتعة ، وقال : إنك امرؤ تائه ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة ، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، كما قاله ، وعليه أكثر الناس ، فروى الأمرين محتجا عليه بهما ، لا مقيدا لهما بيوم سفيان بن عيينة خيبر ، والله الموفق .
ولكن هاهنا نظر آخر ، وهو أنه هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال ، أو حرمها عند الاستغناء عنها ، وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذي نظر فيه ، وقال : أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم ، فلما توسع فيها من توسع ، ولم يقف عند الضرورة ، أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها ، ورجع عنه . وقد كان ابن عباس يرى إباحتها ، ويقرأ ( ابن مسعود ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) [ المائدة : 78] ، ففي " الصحيحين " عنه قال : ( عبد الله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ) [ المائدة : 78 ] . كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين : أحدهما : الرد على من يحرمها ، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والثاني : أن يكون أراد آخر هذه الآية ، وهو الرد على من أباحها مطلقا ، وأنه معتد ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص فيها للضرورة ، وعند الحاجة في الغزو ، وعند عدم النساء ، وشدة الحاجة إلى المرأة . فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء ، وإمكان النكاح المعتاد ، فقد اعتدى ، والله لا يحب المعتدين .
فإن قيل : فكيف تصنعون بما روى في " صحيحه " من حديث مسلم جابر ، [ ص: 406 ] ، قالا : وسلمة بن الأكوع ، قيل : هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ، ثم حرمها بعد ذلك ، بدليل ما رواه خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( قد أذن لكم أن تستمتعوا ) يعني : متعة النساء في " صحيحه " ، عن مسلم قال : سلمة بن الأكوع أوطاس في المتعة ثلاثا ، ثم نهى عنها . وعام رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس : هو عام الفتح ؛ لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه في " صحيحه " ، عن مسلم ، قال : ( جابر بن عبد الله وأبي بكر ، حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث ) وفيما ثبت عن كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر أنه قال : ( ومتعة الحج ) متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما : متعة النساء ،
قيل : الناس في هذا طائفتان ، طائفة تقول : إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها ، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح ، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده ، وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير إخراج حديث في " صحيحه " مع شدة الحاجة إليه ، وكونه أصلا من أصول الإسلام ، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به قالوا : ولو [ ص: 407 ] صح حديث البخاري سبرة ، لم يخف على حتى يروي أنهم فعلوها ، ، ويحتج بالآية ، وأيضا ولو صح لم يقل ابن مسعود عمر : إنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا أنهى عنها ، وأعاقب عليها ، بل كان يقول : إنه - صلى الله عليه وسلم - حرمها ونهى عنها . قالوا : ولو صح لم تفعل على عهد الصديق ، وهو عهد خلافة النبوة حقا . والطائفة الثانية : رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصح فقد صح حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ) فوجب حمل حديث حرم متعة النساء جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه ، فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر ، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها . وبالله التوفيق .