فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة سكت بقدر ما يتراد إليه نفسه ثم رفع يديه كما تقدم ، وكبر راكعا ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه ، وبسط ظهره ومده واعتدل ، ولم ينصب رأسه ولم يخفضه ، بل يجعله حيال ظهره معادلا له .
وكان يقول : ( سبحان ربي العظيم ) وتارة يقول مع ذلك أو مقتصرا [ ص: 210 ] عليه ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ) وسجوده كذلك . وأما حديث وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات رضي الله عنه ( البراء بن عازب . فهذا قد فهم منه بعضهم أنه رمقت الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان قيامه فركوعه فاعتداله فسجدته فجلسته ما بين السجدتين قريبا من السواء ) وفي هذا الفهم شيء ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها ، وقد تقدم أنه قرأ في المغرب ب ( الأعراف ) ( والطور ) ( والمرسلات ) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة ، ويدل عليه حديث كان يركع بقدر قيامه ، ويسجد بقدره ويعتدل كذلك أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال : ( قال : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات ، وفي سجوده عشر تسبيحات عمر بن عبد العزيز ، ) هذا مع قول ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الفتى ، يعني : أنس أنه كان يؤمهم ب ( الصافات ) فمراد البراء - والله أعلم - أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة ، فكان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود ، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود ، وتارة يجعل الركوع [ ص: 211 ] والسجود بقدر القيام ، ولكن كان يفعل ذلك أحيانا في صلاة الليل وحدها ، وفعله أيضا قريبا من ذلك في صلاة الكسوف ، وهديه الغالب صلى الله عليه وسلم تعديل الصلاة وتناسبها .
وكان يقول أيضا في ركوعه : ( ) وتارة يقول : ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح وهذا إنما حفظ عنه في قيام الليل . اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ، ومخي وعظمي وعصبي )
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلا : ( سمع الله لمن حمده ، ويرفع يديه ) كما تقدم ، وروى رفع اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين نفسا ، واتفق على روايتها العشرة ، ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة ، بل كان ذلك هديه دائما إلى أن فارق الدنيا ، ولم يصح عنه حديث البراء : ثم لا يعود بل هي من [ ص: 212 ] زيادة يزيد بن زياد . فليس ترك الرفع مما يقدم على هديه المعلوم ، فقد ترك من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس معارضها مقاربا ولا مدانيا للرفع ، فقد ترك من فعله التطبيق والافتراش في السجود ووقوفه إماما بين الاثنين في وسطهما دون التقدم عليهما ، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء ، وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرة وصحة وصراحة وعملا ، وبالله التوفيق . ابن مسعود
وكان دائما يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وبين السجدتين ويقول : ( ) ذكره لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود في " صحيحه " . ابن خزيمة
وكان إذا استوى قائما قال : ( ربنا ولك الحمد ) وربما قال : ( ربنا لك الحمد ) وربما قال : ( اللهم ربنا لك الحمد ) صح ذلك عنه . وأما الجمع بين " اللهم " و " الواو " فلم يصح .
وكان من هديه إطالة هذا الركن بقدر الركوع والسجود ، فصح عنه أنه كان يقول : ( ) سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السماوات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، [ ص: 213 ] وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وصح عنه أنه كان يقول فيه : ( اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب )
وصح عنه أنه كرر فيه قوله : ( لربي الحمد لربي الحمد ، حتى كان بقدر الركوع )
وصح عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكث حتى يقول القائل : قد نسي ، من إطالته لهذا الركن . وذكر عن مسلم أنس رضي الله عنه : ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ، قام حتى نقول : قد أوهم ، ثم [ ص: 214 ] يسجد ، ثم يقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم
وصح عنه في صلاة الكسوف أنه أطال هذا الركن بعد الركوع حتى كان قريبا من ركوعه ، وكان ركوعه قريبا من قيامه . فهذا هديه المعلوم الذي لا معارض له بوجه .
وأما حديث : ( البراء بن عازب ) رواه كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء ، فقد تشبث به من ظن تقصير هذين الركنين ولا متعلق له ، فإن الحديث مصرح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين سائر الأركان ، فلو كان القيام والقعود المستثنيين هو القيام بعد الركوع والقعود بين السجدتين لناقض الحديث الواحد بعضه بعضا ، فتعين قطعا أن يكون المراد بالقيام والقعود قيام القراءة وقعود التشهد ، ولهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم فيهما إطالتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانه ، وهذا بحمد الله واضح ، وهو مما خفي من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على من شاء الله أن يخفى عليه . البخاري
قال شيخنا : وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة وأحدثوه فيها ، كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير ، وكما أحدثوا التأخير [ ص: 215 ] الشديد ، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم ، وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة .