فصل
في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين :
أحدهما : كلامه لهم ، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله .
الثاني : من خصوصية أمرهم باعتزال النساء ، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة ، وشد المئزر ، واعتزال محل اللهو واللذة والتعوض عنه بالإقبال على العبادة ، وفي هذا إيذان بقرب الفرج ، وأنه قد بقي من العتب أمر يسير .
وفقه هذه القصة ، أن زمن العبادات ينبغي فيه تجنب النساء ، كزمن الإحرام ، وزمن الاعتكاف ، وزمن الصيام ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر هذه المدة في حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام في توفرها على العبادة ، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمة بهم وشفقة عليهم ، إذ لعلهم يضعف صبرهم عن نسائهم في جميعها ، فكان من اللطف بهم والرحمة أن أمروا بذلك في آخر المدة ، كما يؤمر به الحاج من حين يحرم ، لا من حين يعزم على الحج .
وقول كعب لامرأته : ، دليل على أنه لم يقع بهذه اللفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه . والصحيح أن الحقي بأهلك كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة ، وإخراج الرقيق عن ملكه ، لا يقع به طلاق ولا عتاق ، هذا هو الصواب الذي ندين الله به ، ولا نرتاب فيه البتة . فإذا قيل له : إن غلامك [ ص: 511 ] فاجر أو جاريتك تزني ، فقال : ليس كذلك ، بل هو غلام عفيف حر ، وجارية عفيفة حرة ، ولم يرد بذلك حرية العتق ، وإنما أراد حرية العفة ، فإن جاريته وعبده لا يعتقان بهذا أبدا ، وكذا إذا قيل له : كم لغلامك عندك سنة ؟ فقال هو عتيق عندي ، وأراد قدم ملكه له ، لم يعتق بذلك ، وكذلك إذا لفظ الطلاق والعتاق والحرية ، وإنما أراد أنها في طلق الولادة لم تطلق بهذا ، وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أريد بها ودل السياق عليها ، فدعوى أنها صريحة في العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة ، ودعوى باطلة قطعا . ضرب امرأته الطلق ، فسئل عنها ، فقال : هي طالق ، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق