بيان على الجملة : السبب الذي به ينال حسن الخلق
قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة ، وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة ، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضا . وهذا الاعتدال يحصل على وجهين :
[ ص: 179 ] أحدهما : بجود إلهي وكمال فطري ، بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق ، قد كفي سلطان الشهوة والغضب ، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع .
والوجه الثاني : اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة ، وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب ، فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود ، وهو بذل المال ، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفا مجاهدا نفسه فيه ، حتى يصير ذلك طبعا له ، ويتيسر عليه فيصير به جوادا . وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر ، فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة ، وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقا له وطبعا فيتيسر عليه ، وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق ، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذا ، فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال دون الذي يبذله عن كراهة ، ، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع . ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة ، وما لم تترك جميع الأفعال السيئة ، وما لم يواظب عليها مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها ، ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " "ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ، ولا ينال كمال السعادة به ؛ ولذلك قال الله تعالى : ( وجعلت قرة عيني في الصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) [ البقرة : 45 ] . ثم لا يكفي في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان ما دون زمان ، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر . ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين ومصير العبادات لذيذة ، فإن العادة تقتضي في النفس عجائب
أغرب من ذلك ، فإنا نرى المقامر المفلس قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره ، وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار ، مع أن القمار ربما سلبه ماله ، وخرب بيته ، وتركه مفلسا ، ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به ، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة .
وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائما على رجليه وهو لا يحس بألمهما ؛ لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحلقها في جو السماء ، فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ، ومشاهدة ذلك من المخالطين والمعارف . وإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه ، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه . بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع ، يضاهي الميل إلى أكل الطين ، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة ، فأما ميله إلى الحكمة ، وحب الله تعالى ، ومعرفته وعبادته - فهو كالميل إلى الطعام والشراب ، فإنه مقتضى طبع القلب ، فإنه أمر رباني ، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه ، وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ، ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة ، فلا تشتهي الطعام [ ص: 180 ] والشراب وهما سببان لحياتها ، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى ، فلا ينفك عن مرض بقدر ميله ، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معينا له على حب الله تعالى وعلى دينه ، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض ، فإذن قد عرفت بهذا قطعا أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة ، وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء ، فتصير طبعا ، وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح - أعني النفس والبدن ، فإن كان صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة ، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب ، والأمر فيه دور .
وإذا تحققت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة ، وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة ، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم ، وهم قرناء الخير إخوان الصلاح ، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا ، فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما - فهو غاية الفضيلة ، ومن كان رذلا بالطبع واتفق له قرناء السوء ، فتعلم منهم ، وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها - فهو في غاية البعد من الله عز وجل ، وبين الرتبتين من اختلفت فيه هذه الجهات ، ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صفته وحالته : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) [ النحل : 33 ] .