الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  بيان العلاج الذي به يمنع اللسان عن الغيبة :

                                                                  اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل . وعلاج كف اللسان عن الغيبة إجمالا أن يعلم أنه يتعرض لسخط الله تعالى إذا اغتاب لارتكابه ما نهى الله عنه ، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفا من ذلك ، وينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه ، فإن وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه ، وذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - : " طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس " . ومهما وجد عيبا فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره ، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه ، وهذا إن كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره ، وإن كان أمرا خلقيا فالذم له ذم للخالق ، فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها . وإذا لم يجد العبد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى ، ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب ، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب ، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه ، وهو من أعظم الذنوب . وينفعه أيضا أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له ، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه . وبالجملة فمن قوي إيمانه انكف عن الغيبة لسانه .

                                                                  بيان تحريم الغيبة بالقلب وذلك بسوء الظن :

                                                                  اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك ، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره ظنا بأمر سيئ ، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه ، ولكن [ ص: 200 ] المنهي عنه أن يظن ، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب ، فقد قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) [ الحجرات : 12 ] وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل ، فإن لم ينكشف كذلك فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذبه ؛ فإنه أفسق الفساق ، وقد قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ الحجرات : 6 ] وفي الحديث : " إن الله حرم من المسلم دمه وماله ، وأن يظن به ظن السوء " وحينئذ فإذا خطر لك وسواس سوء الظن ، فينبغي أن تدفعه عن نفسك ، وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان ، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر ، فإن قلت : " فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث ؟ " فنقول : " أمارة عقد الظن أن يتغير القلب معه عما كان ، فينفر عنه نفورا ما ، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتمام بسببه " . والمخرج منه أن لا يحققه ، أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح . وربما يلقي الشيطان أن هذا من فطنتك وسرعة تنبهك وذكائك ، وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى ، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته . ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة ، فانصحه في السر ، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه .

                                                                  ومن ثمرات سوء الظن : التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق ، فيشتغل بالتجسس وهو أيضا منهي عنه ، قال الله تعالى : ( ولا تجسسوا ) [ الحجرات : 12 ] فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة . ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله ، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه . وقد مضى في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية