[ ص: 216 ] كتاب ذم الدنيا
الآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة ، وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا ، وصرف الخلق عنها ، وعودتهم إلى الآخرة ، بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولم يبعثوا إلا لذلك ، فلا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن ؛ لظهورها ، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها :
فقد روي " ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على شاة ميتة ، فقال : " أترون هذه الشاة هينة على أهلها ؟ " قالوا : " من هوانها ألقوها " ، قال : " والذي نفسي بيده ، للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء حب الدنيا رأس كل خطيئة " ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " " . إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون
بيان الدنيا المذمومة :
اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي ، وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب ، فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها - لكونها عدوة قاطعة لطريق الله - ما هي ، فنقول :
دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك ، فالقريب الداني يسمى دنيا ، وهو كل ما قبل الموت ، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة ، وهو ما بعد الموت ، فكل ما لك فيه حظ ونصيب ، وغرض ، وشهوة ، ولذة - عاجل الحال قبل الوفاة ، فهي الدنيا في حقك ، إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم ، بل هو ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما يصحبك في الآخرة ويبقى معك ثمرته بعد الموت ، وهو العلم النافع والعمل الصالح .
القسم الثاني : وهو المقابل له على الطرف الأقصى : كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلا ، كالتلذذ بالمعاصي كلها ، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجات ، والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات - أي في السرف - فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة .
[ ص: 217 ] القسم الثالث : وهو متوسط بين الطرفين : كل حظ عاجل معين على أعمال الآخرة ، وهو ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يصل إلى العلم والعمل ، وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول ؛ لأنه معين على الأول ووسيلة إليه ، فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولا للدنيا ، ولم يصر به من أبناء الدنيا ، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة ، وإن أخذ ذلك بقصد حظ النفس فهو من الدنيا . فإذن الدنيا : حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ، ويعبر عنه بالهوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) [ النازعات : 40 ، 41 ] ومجامع الهوى خمسة أمور ، وهي ما جمعه الله تعالى في قوله : ( أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) [ الحديد : 20 ] .
والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة سبعة ، يجمعها قوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) [ آل عمران : 14 ] وبالجملة فكل ما ليس لله فهو من الدنيا ، وما هو لله فذلك ليس من الدنيا .