وجوب وعلى الدوام : التوبة على الفور
لا يخفى أن وجوبها على الفور لا يستراب فيه ، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان ، وهو واجب على الفور ، والعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا على تركها ، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام : " " وذلك لكون الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا للمقت كسائر المعاصي لأنها للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان ، فكما أنها تغير مزاج الإنسان ولا تزال تجتمع حتى تفسده فيموت دفعة ، كذلك تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا تحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين . لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
وأما وجوب وفي كل حال فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه ، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب ، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المذهلة عن ذكر الله ، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك نقص وله أسباب ، وترك أسبابه بالتشاغل بضدها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون بالمقادير ، فأما الأصل فلا بد منه ، ولهذا قال عليه السلام : " التوبة على الدوام " الحديث ، ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال : ( إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح : 2 ] وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره .
وإنما أطلقنا الوجوب في كل حال ، والتوبة عن بعض ما ذكر من الفضائل لا الفرائض لأنا نعني بالواجب ما لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين ، والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبة في الوصول إليه كما يقال الطهارة واجبة في صلاة التطوع أي لمن يريدها ، فإنه لا يتوصل إليها إلا بها .
واعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلا ، وليس معنى التوبة تركها فقط ، بل تمام التوبة بتدارك ما مضى ، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها [ ص: 271 ] ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة ، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صارت رينا كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثا كما قال تعالى : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [ المطففين : 14 ] فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث ، ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التي انطبعت في القلب ، كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان .
وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : " " فإذن لا يستغني العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات . أتبع السيئة الحسنة تمحها
ولقد صدق " " حيث قال : " لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه إلى الممات ، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله " وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة ، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد ، وكل ساعة من العمر ، بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ، ولا بدل منها فإنها صالحة ; لأنها توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد ، وأي جوهر أنفس من هذا ؟ فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا ، فإن كنت لا تبكي على هذه المصيبة فذلك لجهلك ، ومصيبتك بجهلك أعظم من كل مصيبة ، ونوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته ، " أبو سليمان الداراني الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه ولكل مصاب مصيبته ، وقد رفع الناس عن التدارك كما قال تعالى : ( وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) [ المنافقون : 10 ، 11 ] .
وقد قيل في معنى الآية إنه يقول حالتئذ : " يا ملك الموت أخرني يوما أتوب فيه إلى ربي وأتزود صالحا لنفسي ، فيقول : فنيت الأيام فلا يوم " ، فيقول : فأخرني ساعة " ، فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة " ، فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتزهق نفسه ، ولمثل هذا يقال : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) [ النساء : 18 ] وقوله تعالى : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) [ النساء : 17 ] .
معناه عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " " ومن أتبع السيئة الحسنة تمحها كان بين خطرين عظيمين : ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف
[ ص: 272 ] أحدهما : أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو .
الثاني : أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ، فيأتي الله بقلب غير سليم ، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم .