37 - الحبل الوثيق في نصرة الصديق .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد ، فقد رفع إلي سؤال في لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) إلى آخر السورة ، هل نزل ذلك في رجلين معينين ؟ وما سبب نزوله ؟ وهل قوله تعالى : ( أبو بكر الصديق أو الآية عامة فيه وفي غيره ؟ وذكر السائل أن السبب في هذا السؤال أن الأمير المراد بالأتقى ازدمر حاجب الحجاب والأمير خاير بك من حديد وقع بينهما تنازع في أبي بكر رضي الله عنه : هل هو أفضل الصحابة ؟ وأن خاير بك قائل بذلك ، وأن ازدمر [ ص: 388 ] ينكر ذلك ، وأنه طالب خاير بك بدليل من القرآن على أن أبا بكر أفضل ، وأن خاير بك استدل عليه بقوله تعالى : ( وسيجنبها الأتقى ) ؛ فإنها نزلت في حق أبي بكر ، وقد قال الله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأن ازدمر قال : الأتقى عام في أبي بكر وغيره ، وطالب كل منهما الآخر بشهادة العلماء له بنصره قوله ، وأن الشيخ شمس الدين الجوجري كتب على سؤال نظير هذا السؤال . فقلت : أرني ما كتب . فأرانيه ، فإذا فيه أن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، فقلت : هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد ، والرجل فقيه ، فما له يتكلم في غير فنه ؟ وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية ، فمن لم يكن متبحرا في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة ، وأنا أوضح الكلام عليها في فصلين :
الفصل الأول : في تقرير أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه ، قال في مسنده : حدثنا بعض أصحابنا عن البزار ، ثنا بشر بن السري ، عن مصعب بن ثابت ، عن أبيه قال : نزلت هذه الآية عامر بن عبد الله بن الزبير وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) إلى آخر السورة في ، وقال أبي بكر الصديق في تفسيره : حدثني ابن جرير محمد بن إبراهيم الأنماطي ، ثنا ، ثنا هارون بن معروف به ، وقال بشر بن السري ابن المنذر في تفسيره : حدثنا موسى بن هارون ، ثنا ، ثنا هارون بن معروف به ، وقال بشر بن السري في الشريعة : ثنا الآجري أبو بكر بن أبي داود ، ثنا محمود بن آدم المروزي ، ثنا به ، وقال بشر بن السري في تفسيره : ثنا أبي ، ثنا ابن أبي حاتم محمد بن أبي عمر العدني ، ثنا سفيان ، ثنا عن أبيه ، أن هشام بن عروة أعتق سبعة كلهم يعذب في الله ، منهم أبا بكر الصديق بلال وعامر بن فهيرة ، وفيه نزلت : ( وسيجنبها الأتقى ) إلى آخر السورة ، وقال : حدثنا ابن جرير ابن عبد الأعلى ، ثنا ابن ثور ، عن معمر قال : أخبرني عن سعيد في قوله : ( وسيجنبها الأتقى ) قال : نزلت في أبي بكر ، أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال وعامر بن فهيرة ، وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي عتيق ، عن عامر بن عبد الله ، عن أبيه قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون [ ص: 389 ] دونك . فقال : يا أبت ، إني إنما أريد ما أريد . ثم نزلت هذه الآيات فيه : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق عن زياد البكائي ابن إسحاق ، وقال : صحيح على شرط . وقال مسلم : حدثني ابن جرير هارون بن إدريس الأصم ، ثنا ، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن قال : كان عامر بن عبد الله بن الزبير يعتق على الإسلام أبو بكر الصديق بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك . فقال : أي أبت ، إنما أريد ما عند الله . قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) إلى قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) وقال : ثنا أبي ، ثنا ابن أبي حاتم منصور بن أبي مزاحم ، ثنا ابن أبي الوضاح ، عن ، عن يونس بن أبي إسحاق رضي الله عنه ، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اشترى أبا بكر الصديق بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق ، فأعتقه لله ، فأنزل الله ( والليل إذا يغشى ) إلى آخرها في أبي بكر وأمية بن خلف . وقال في الشريعة : ثنا الآجري ، ثنا حامد بن شعيب أبو العباس البلخي منصور بن أبي مزاحم ، ثنا أبو سعيد المؤدب عن ، عن يونس بن أبي إسحاق أبي إسحاق ، عن قال : إن عبد الله بن مسعود أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله ، فأنزل الله ( والليل إذا يغشى ) ، إلى قوله : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) يعني أبا بكر ، ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قال : لم يصنع ذلك أبو بكر ليد كانت منه إليه فيكافئه بها ، ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ، وفي تفسير قال البغوي : بلغني أن سعيد بن المسيب أمية بن خلف قال في بلال حين قال : أتبيعنيه ؟ قال : نعم أبيعه بقسطاس ؛ عبد لأبي بكر الصديق لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا يأبى الإسلام ، فاشتراه أبو بكر به ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده . فأنزل الله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وفي تفسير القرطبي روى عطاء والضحاك عن قال : عذب المشركون ابن عباس بلالا فاشتراه أبو بكر برطل من [ ص: 390 ] ذهب من أمية بن خلف وأعتقه ، فقال المشركون : ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده . فنزلت ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) . قال : هذا وما قدمناه من الأحاديث يدل على أن الله خص الآجري أبا بكر بأشياء فضله بها على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
فهذا ما يتعلق بنزول الآية ، وهو من علم الحديث ، ويأتي في الفصل بعد هذا ما يتعلق بها من العلوم الأربعة : التفسير والكلام وأصول الفقه والنحو ، وقد تواردت خلائق من المفسرين لا يحصون على أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه ، وكذا أصحاب الكتب المؤلفة في المبهمات .