مسألة : في كيفية الوحي من الله  ، هل يتلقاه الملك من الله تعالى بكلام يفهمه الملك أو بالعربية للنبي العربي وبالعبرانية للنبي العبراني ، وهل يلقيه الملك إلى جبريل  أو جبريل  المتلقي من الله تعالى ؟ وقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر    ) وفسر بنزوله إلى بيت العزة ، ما كيفية نزوله إليه ؟ وقوله تعالى للقلم : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، هل يكون بإلهام من الله تعالى يلهمه للقلم أو بإملاء من الله تعالى ؟ وكيف أخذ الملك الوحي من اللوح المحفوظ ؟ هل يقول الله له : اليوم الفلاني يقع فيه كذا خذه من اللوح ؟ أو يوم يقع فيه يقول له : خذها وألقها إلى النبي ؟ وهل تنام الملائكة ؟ وقوله تعالى : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى    ) هل اطلع على ذلك الوحي ملك أو ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأحد . 
الجواب : قال  الأصبهاني  في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة  والجماعة على أن كلام الله منزل ، واختلفوا في معنى الإنزال ، فمنهم من قال : إظهار القراءة ، ومنهم من قال : إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل  وعلمه قراءته ، ثم جبريل  أداه في الأرض . وقال  الطيبي  في حاشية الكشاف : لعل نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تلقفا   [ ص: 398 ] روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه ، وقال القطب  الرازي  في حواشي الكشاف : المراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفا روحانيا ، أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم . انتهى . وقد سألت شيخنا العلامة  محيي الدين الكافيجي  عن كيفية التلقف الروحاني فقال لي : لا يكيف . وقال  الزركشي     : اختلف العلماء في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال : أحدها أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبريل  حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به ، وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف . 
والثاني أن جبريل  إنما نزل بالمعاني خاصة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب . وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين  على قلبك    ) . 
والثالث أن جبريل  ألقى عليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرءونها بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك . وقال  البيهقي  في معنى قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر    ) يريد - والله أعلم - إنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه ، وأنزلناه بما سمع ، فيكون الملك هو المنتقل به من علو إلى أسفل ، قال  أبو شامة :  ولا بد من هذا المعنى على مذهب أهل السنة    . 
فهذه نبذة من كلام أئمة السنة في كيفية تلقي جبريل  الوحي ، وحاصل ما في ذلك أقوال : أحدها أنه ألهمه ، والثاني أنه سمعه من الله ، والثالث أنه حفظه من اللوح المحفوظ . وقول التلقف الروحاني ، الظاهر أنه الإلهام ، فلا يكون قولا رابعا ، وقد سئل الإمام  أبو إسحاق إسماعيل البخاري الصفار  عن تبليغ الوحي من جبريل  إلى أنبياء الله ، هل سمع من الله تعالى جملة أم جاء به من اللوح المحفوظ ؟ قال : كلا الوجهين جائز ، وذكر في تفسير سورة القدر أن الله تعالى سمع جبريل  كله جملة واحدة ، ثم أملاه جبريل  على السفرة - وهم ملائكة في سماء الدنيا - لكي لا يكون لهم احتياج حين أسمعهم الله تعالى القرآن . وذكر الفقيه الزاهد  أبو الليث  في تفسير سورة الدخان وفي سورة الأحزاب في قوله تعالى : ( ليسأل الصادقين عن صدقهم    ) وقال في سورة الدخان : جاء بها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم أنزل على محمد  نجوما [نجوما] . وذكر  الدينوري  أنه سمع من الله جملة ثم نزل به على محمد  صلى الله عليه وسلم متفرقا ، وقال بعضهم :   [ ص: 399 ] جاء جبريل  عليه السلام به سماعا من إسرافيل  ، وإسرافيل  من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل  عليه السلام على محمد  صلى الله عليه وسلم متفرقا ، ويقال : جاء به جبريل  في ليلة القدر بما يحتاج له من سنة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل به على محمد  متفرقا . 
وقد نظرت في الأحاديث والآثار فوجدتها أيضا مختلفة ، وأخرج  الطبراني  من حديث  النواس بن سمعان  مرفوعا : " إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة ، فإذا سمع ذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل  ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فينتهي به إلى الملائكة ، كلما مر بسماء سأله أهلها : ماذا قال ربنا ؟ قال : الحق ، فينتهي به إلى حيث أمر   " وأخرج  ابن مردويه  من حديث  ابن مسعود  رفعه : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة فيفزعون   " الحديث ، هذان الحديثان شاهدان للقول الثاني أن جبريل  يسمع الوحي من الله تعالى . وأخرج  ابن أبي حاتم  في تفسيره وأبو الشيخ  ابن حيان  في كتاب العظمة عن  ابن سابط  قال : " في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة ، وكل به ثلاثة من الملائكة ، فوكل جبريل  بالكتب والوحي إلى الأنبياء والنصر عند الحروب ، وبالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوما ، ووكل ميكائيل بالقطر والنبات ، ووكل ملك الموت بقبض الأنفس ، فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء   " . فهذا شاهد للقول الثالث : أن جبريل  حفظ الوحي من أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ . وأخرج  البيهقي  في شعب الإيمان عن  ابن عباس  قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل  يناجيه إذ انشق أفق السماء ونزل ملك فقال : يا محمد  ، إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا ، قال : فقلت : نبي عبد ، فعرج ذلك الملك فقلت : يا جبريل  ، من هذا ؟ قال : هذا إسرافيل  ، خلقه الله بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه ، بين يديه اللوح المحفوظ ، فإذا أذن الله في شيء من السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فيه ، فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل  أمره به ، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به   " الحديث . وأخرج  ابن أبي زيد  في كتاب السنة عن  كعب  قال : إذا أراد الله أن يوحي أمرا جاء اللوح المحفوظ حتى يصفق جبهة إسرافيل  فيرفع رأسه فينظر ، فإذا الأمر مكتوب ، فينادي جبريل  فيلبيه ، فيقول : أمرت بكذا أمرت بكذا ، فيهبط جبريل  على النبي فيوحي إليه . وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن  أبي بكر الهذلي  قال : إذا أمر الله بالأمر   [ ص: 400 ] تدلت الألواح على إسرافيل  بما فيها من أمر الله ، فينظر فيها إسرافيل  ، ثم ينادي جبريل  فيجيبه   . وذكر نحوه . وأخرج أيضا عن  أبي سنان  قال : اللوح المحفوظ معلق بالعرش ، فإذا أراد الله أن يوحي بشيء كتب في اللوح ، فيجيء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل  ، فينظر فيه ، فإن كان إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل  ، وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى جبريل    . الحديث ، وله شواهد كثيرة استوفيتها في كتابي الذي ألفته في أخبار الملائكة ، منها ما أخرجه  البيهقي  في شعب الإيمان عن  عبد الرحمن بن سابط  قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل  وميكائيل  وملك الموت وإسرافيل  ، فأما جبريل  فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل  فموكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل  فهو ينزل بالأمر عليهم   . وما أخرجه أبو الشيخ عن  عكرمة بن خالد     : أن رجلا قال : يا رسول الله ، أي الملائكة أكرم على الله  ؟ فقال : " جبريل  وميكائيل  وإسرافيل  وملك الموت ، فأما جبريل  صاحب الحرب وصاحب المرسلين ، وأما ميكائيل  فصاحب القطر والنبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل  فأمين الله بينه وبينهم   " . 
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أمر خلاف القولين السابقين ، وهو أن جبريل  يأخذ الوحي من إسرافيل  ، وإسرافيل  يأخذه مما كتب تلك الساعة في اللوح ، ويمكن الجمع لمن تأمل فلا يكون بينهما اختلاف . 
وقول السائل : أو بالعربية للنبي العربي وبالعبرانية للنبي العبراني . 
جوابه : ما أخرجه  ابن أبي حاتم  بسنده عن  سفيان الثوري  ، قال : لم ينزل وحي إلا بالعربية ، ثم ترجم كل نبي لقومه   . وقوله : هل يلقيه الملك إلى جبريل  أو جبريل  المتلقي من الله ؟ تقدم في ذلك أحاديث مختلفة بعضها شاهد للأول وبعضها شاهد للثاني . 
وقوله : ما كيفية نزوله إلى بيت العزة ؟ ذكر  علي بن سهل النيسابوري  في تفسيره أن كيفية ذلك أن جبريل  حفظه من اللوح المحفوظ ، ثم أتى به إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة ، يعني الملائكة ، وهو معنى قوله تعالى : ( بأيدي سفرة  كرام بررة    ) وتابعه  الإمام علم الدين السخاوي  فقال في كتابه جمال القراء : نزل به جبريل  إلى السماء الدنيا ، وأمره سبحانه بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له . وأما سؤال القلم فمعنى الحديث أن الله أجراه بالكتابة لما هو كائن ، بقدرة من الله لا بالإملاء ولا بالإلهام ; لأنهما إنما يكونان للحيوان ، والقلم من نوع الجماد ، وخطابه ورده الجواب من   [ ص: 401 ] باب خطاب السماء والأرض في قوله تعالى : ( ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين    ) . ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه  الطبراني  عن  ابن عباس  قال : إن الله لما خلق العرش استوى عليه ، ثم خلق القلم وأمره أن يجري بإذنه ، فجرى بما هو كائن ، فأثبته الله في الكتاب المكنون . فقوله : بإذنه ; أي بقدرته ، أي أوجد الكتابة في اللوح بمر القلم عليه بخلق الله ذلك . ويؤيده ما أخرجه  ابن جرير  في تفسيره عن  جبير بن نفير  قال : إن الله خلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ، فإدخال باء الآلة عليه وإسناد كتب إلى الله ، صريح في أن القلم آلة والعلم والقدرة لله تعالى . 
وقول السائل : وكيف أخذ الملك الوحي من اللوح . . . إلى آخره ؟ 
جوابه ما تقدم في أثر  كعب  وشبهه . 
وقوله : وهل تنام الملائكة  ؟ لم أقف على شيء في ذلك ، ولكن ظاهر قوله تعالى : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون    ) أنهم لا ينامون . 
وقوله : ( فأوحى إلى عبده    ) إلى آخره ، من جملة ما أوحاه إليه تلك الليلة فرض الصلوات الخمس في أشياء أخر بينها النبي صلى الله عليه وسلم للناس ، ومنه ما لم يؤمر ببيانه . 
				
						
						
