وأخرج  ابن عساكر  عن  عمر بن الخطاب  أنه دعا الأسقف فقال : هل تجدونا في شيء من كتبكم ؟ قال : نجد صفتكم وأعمالكم ، وأخرج  البيهقي  في دلائل النبوة عن  محمد بن يزيد الثقفي  قال : اصطحب  قيس بن خرشة  ،  وكعب الأحبار  حتى إذا بلغا صفين  وقف  كعب  ثم نظر ساعة ثم قال : ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله ، فقال  قيس     : ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله به ؟ فقال  كعب     : ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة الذي أنزل الله على موسى  ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ، وأخرج  عبد الله بن أحمد  في روايات الزهد عن  هشام بن خالد الربعي  قال : قرأت في التوراة : إن السماء والأرض تبكي على  عمر بن عبد العزيز  أربعين سنة   . 
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا وقد سردتها في كتاب المعجزات ، وحاصلها القطع بأن الله بين لأنبيائه جميع ما يتعلق بهذه الأمة من أحكام وما يحدث فيها من حوادث وفتن ، فعلم الأنبياء ذلك بطريق الوحي من الله من غير احتياج إلى أن يأخذوه باجتهاد أو تقليد - هذا ما يتعلق بالطريق الأول - وقد اعترض علي في هذا الطريق بأنه يلزم عليه أن يكون كل ما في القرآن مضمنا في جميع الكتب السابقة ، وأقول : لا مانع من ذلك ، بل دلت الأدلة على ثبوت هذا اللازم قال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين    ) إلى قوله : ( وإنه لفي زبر الأولين    ) ، أخرج  ابن أبي حاتم  عن  قتادة  في قوله : ( وإنه لتنزيل رب العالمين    ) قال : القرآن ، وفي قوله : ( وإنه لفي زبر الأولين    ) قال : أي في كتب الأولين ، وأخرج عن  عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  في الآية قال : يقول : إنه في الكتب التي أنزلها على الأولين . 
وأخرج عن  مبشر بن عبيد القرشي  في قوله : ( أولم يكن لهم آية    ) قال : يقول   [ ص: 193 ] أولم يكن لهم القرآن آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل  ، فقد دلت هذه الآية وكلام السلف في تفسيرها على أن المعاني التي تضمنها القرآن موجودة في كتب الله السابقة ، وقد نص على هذا بعينه  الإمام أبو حنيفة  ، حيث استدل بهذه الآية على جواز قراءة القرآن بغير اللسان العربي  ، وقال : إن القرآن مضمن في الكتب السابقة وهي بغير اللسان العربي أخذا من هذه الآية ، ومما يشهد بذلك وصفه تعالى للقرآن في عدة مواضع بأنه مصدق لما بين يديه من الكتب ، فلولا أن ما فيه موجود فيها لم يصح هذا الوصف ، من ذلك قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه    ) أخرج  ابن جرير  عن  ابن جريج  في الآية قال : القرآن أمين على الكتب فيما أخبرنا أهل الكتاب عن كتابهم ، فإن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا   . 
وأخرج عن  ابن زيد  في الآية قال : كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك ، كل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق ، ومن ذلك قوله تعالى : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى    ) . أخرج  البزار  بسند صحيح عن  ابن عباس  قال : لما نزلت : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى    ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : كان كل هذا في صحف إبراهيم  وموسى    . 
وأخرج  سعيد بن منصور  عن  ابن عباس  قال : هذه السورة في صحف إبراهيم  وموسى    . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  عن  السدي  قال : إن هذه السورة في صحف إبراهيم  وموسى  مثل ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم . 
وأخرج  عبد الرزاق  عن  قتادة  في قوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى    ) قال : ما قص الله في هذه السورة . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  عن  الحسن     : ( إن هذا لفي الصحف الأولى    ) قال : في كتب الله كلها ، ومن ذلك قوله تعالى : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى    ) ( أن لا تزر ) الآيات . فقد دل ذلك وأمثاله من القرآن على أن معاني القرآن موجودة في كتب الله تعالى التي أنزلها على أنبيائه ، والله تعالى أعلم . 
الطريق الثاني : أن عيسى  صلى الله عليه وسلم يمكن أن ينظر في القرآن فيفهم منه جميع الأحكام   [ ص: 194 ] المتعلقة بهذه الشريعة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث كما فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من القرآن ، فإن القرآن العزيز قد انطوى على جميع الأحكام الشرعية ، وفهمها النبي صلى الله عليه وسلم بفهمه الذي اختص به ، ثم شرحها لأمته في السنة ، وأفهام الأمة تقصر عن إدراك ما أدركه صاحب النبوة ، وعيسى  صلى الله عليه وسلم نبي فلا يبعد أن يفهم من القرآن كفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشاهد ما قلناه من أن جميع الأحكام الشرعية فهمها النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن - قول  الإمام الشافعي  رضي الله عنه : جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن . ويؤيده ما أخرجه الطبراني  في " الأوسط " من حديث  عائشة  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه   . 
وقال  الشافعي  أيضا : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن . 
وقال  الشافعي  أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها . 
وقال  ابن برجان     : ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله ، قرب أو بعد ، فهمه من فهمه ، وعمه من عمه ، وكذا كل ما حكم أو قضى به . 
وقال بعضهم : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله في سورة المنافقين : ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها    ) فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده . 
وقال  المرسي  في تفسيره : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم روت عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة ، ومثل  ابن مسعود  ،  وابن عباس  حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : سيكون فتن ، قيل : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم   . رواه  الترمذي     . 
وقال الله تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء    ) . وقال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء    ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة   . رواه  ابن أبي حاتم  في تفسيره ،  وأبو الشيخ بن حيان  في " كتاب العظمة " . 
وقال  ابن مسعود     : من أراد العلم فعليه بالقرآن ، فإن فيه خبر الأولين والآخرين   . رواه  سعيد بن منصور  في سننه . 
وقال  ابن مسعود  أيضا : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وبين لنا فيه كل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا   [ ص: 195 ] في القرآن   . رواه  ابن جرير   وابن أبي حاتم  في تفسيريهما . 
وقال  ابن مسعود     : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله   . رواه  ابن أبي حاتم  ، وقال  سعيد بن جبير     : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله   - رواه  ابن أبي حاتم     . 
فعرف بمجموع ما ذكرناه أن جميع الشريعة منطوية تحت ألفاظ القرآن ، غير أنه لا ينهض لإدراكها منه إلا صاحب النبوة . 
قال بعض العلماء : العبادة في القرآن للعامة ، والإشارة للخاصة ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء ، وعيسى  عليه السلام نبي رسول ، فيفهم من القرآن ما انطوى عليه ويحكم به وإن خالف الإنجيل ، وهذا معنى كونه يحكم بشرع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فهذان طريقان كل منهما محتمل في معرفة عيسى  صلى الله عليه وسلم بأحكام هذه الشريعة ، ومأخذهما قوي في غاية الاتجاه ، والله أعلم . 
الطريق الثالث : ما أشار إليه جماعة من العلماء منهم  السبكي  وغيره ، أن عيسى  عليه السلام - مع بقائه على نبوته - معدود في أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وداخل في زمرة الصحابة ، فإنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي مؤمنا به ومصدقا ، وكان اجتماعه به مرات في غير ليلة الإسراء من جملتها بمكة  ، روى  ابن عدي  في " الكامل " عن  أنس  قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا ، فقلنا : يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد ؟ قال : قد رأيتموه ؟ قلنا : نعم ، قال : ذاك عيسى ابن مريم  سلم علي   . 
وأخرج  ابن عساكر  من طريق آخر ، عن  أنس  قال : كنت أطوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة  ، إذ رأيته صافح شيئا لا نراه ، قلنا : يا رسول الله ، رأيناك صافحت شيئا ولا نراه ! قال : ذاك أخي عيسى ابن مريم  ، انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه   . فحينئذ لا مانع من أن يكون تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم أحكامه المتعلقة بشريعته المخالفة لشريعة الإنجيل ؛ لعلمه بأنه سينزل في أمته ويحكم فيهم بشريعته ، فأخذها عنه بلا واسطة . 
وقد روى  ابن عساكر  عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن ابن مريم  ليس بيني وبينه نبي ولا رسول ، إلا أنه خليفتي في أمتي من بعدي   . 
وقد رأيت في عبارة  السبكي  في تصنيف له ما نصه : إنما يحكم عيسى  بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة ، وحينئذ فيترجح أن أخذه للسنة من النبي صلى الله عليه وسلم بطريق المشافهة من غير واسطة ، وقد عده بعض المحدثين في جملة الصحابة هو  والخضر  وإلياس    . 
قال  الذهبي  في " تجريد الصحابة " : عيسى ابن مريم  عليه السلام نبي وصحابي ؛ فإنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم عليه ، فهو آخر الصحابة موتا . انتهى . 
 [ ص: 196 ] وقول السائل : وكيف حكمه في أموال بيت المال ، أيقر ذلك على ما هو الآن ؟ كلام في غاية العجب ؛ فإن أموال بيت المال جارية الآن على غير القانون الشرعي ، ولا يقر نبي على ذلك ، وقد قال أصحابنا في المواريث : إنه لا يورث بيت المال إلا عند انتظامه ، وانتظامه أن يكون كما كان في أيام الصحابة ، وقد قال  ابن سراقة  من أئمتنا وهو قبل الأربعمائة : لبيت المال سنين كثيرة ما استقام ، فكيف قرب التسعمائة ولا يزداد الأمر إلا شدة ، وقد ألفت كتابا في آداب الملوك ، من طالع ما فيه من الأحاديث والآثار علم أن غالب أمور بيت المال جارية الآن على غير القانون الشرعي ، وقد وردت الأحاديث بأن  المهدي  يأتي قبل عيسى ابن مريم  ، فيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا ، ويأتي عيسى  فيقر صنع  المهدي  ، ومما يعدل فيه  المهدي  أنه يقسم بين المسلمين فيئهم الذي استولى عليه ولاة الأتراك وأكلوه واستبدوا به دونهم . 
روى  الإمام أحمد  في مسنده ،  والبزار  ،  والطبراني  ،  وأبو نعيم  ،  والحاكم  في مستدركه بسند صحيح ، عن  سمرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يملأ الله أيديكم من العجم ، فيأكلون فيئكم   . 
وورد ذلك أيضا من حديث  أنس  ،  وحذيفة  ،  وابن عمرو  ،  وأبي موسى الأشعري  ، وروى  ابن حبان  في صحيحه عن   أم سلمة  قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في  المهدي  أنه يقسم بين المسلمين فيئهم ، ويعمل فيهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض ، يمكث سبع سنين   . 
وأخرج  أحمد  في مسنده ،  وأبو يعلى  بسند جيد ، عن  أبي سعيد الخدري  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشركم  بالمهدي  ، يبعث على اختلاف من الناس وزلازل ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا . قيل : ما صحاحا ؟ قال : بالسوية بين الناس ، ويملأ قلوب أمة محمد  غنى ، ويسعهم عدله ، حتى يأمر مناديا فينادي : من له في مال حاجة ، فما يقوم من الناس إلا رجل واحد ، فيكون كذلك سبع سنين   . 
وقول السائل : وما صدر فيها من الأوقاف ؟ جوابه : أن ما كان منها وقفا على وجوه البر ، ومصالح المسلمين ، والعلماء ، والقراء ، وذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقاربه ، والفقراء ، والمرضى ، والزمنى ، والمنقطعين ، والمدارس ، والمساجد ، والحرمين ، وبيت المقدس  ، وكسوة الكعبة  ، وما شاكل ذلك ، فهو وقف صحيح موافق للشريعة ، فيقره ، وما كان موقفا على نساء الملوك والأمراء وأولادهم فهو وقف باطل مخالف للشريعة ، فيبطله . 
				
						
						
