حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى ، ثنا ، ثنا محمد بن الحسين بن مكرم ، قال : قال عبد الأعلى بن حماد النرسي يوما الرشيد وهو واقف على رأسه : يا للفضل بن الربيع فضل ، أين هذا الحجازي ؟ - كالمغضب - فقلت : هاهنا فقال : علي به ، فخرجت وبي من الغم والحزن لمحبتي لفصاحته ، وبراعته ، وعقله ، فجئت إلى بابه فأمرت من دق عليه وكان قائما يصلي فتنحنح ، فوقفت ، حتى فرغ من صلاته ، وفتح الباب فقلت : أجب أمير [ ص: 80 ] المؤمنين ، فقال : سمعا وطاعة ، وجدد الوضوء وارتدى ، وخرج يمشي حتى انتهينا إلى الدار ، فمن شفقتي عليه ، قلت : يا للشافعي أبا عبد الله ، قف حتى أستأذن لك ، فدخلت على أمير المؤمنين ، فإذا هو على حالته كالمغضب ، وقال : أين الحجازي ؟ فقلت : عند السير ، فجئت إليه ، فقام يمشي رويدا ، ويحرك شفتيه ، فلما بصر به أمير المؤمنين قام إليه فاستقبله ، وقبل بين عينيه ، وهش وبش ، وقال : لم لا تزورنا أو تكون عندنا ؟ فأجلسه ، وتحدثا ساعة ، ثم أمر له ببدرة دنانير ، فقال : لا أرب لي فيه ، قال الفضل : فأومأت إليه ، فسكت ، وأمرني أمير المؤمنين أن رده إلى منزله ، فخرجت والبدرة تحمل معه ، فجعل ينفقها يمنة ويسرة حتى رجع إلى منزله وما معه دينار ، فلما دخل منزله قلت : قد عرفت محبتي لك ، فبالذي سكن غضب أمير المؤمنين عنك إلا ما علمتني ما كنت تقول في دخولك معي عليه ، فقال : حدثني مالك ، عن نافع ، عن ، ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الأحزاب : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) إلى قوله : ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، ثم قال : " وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وديعة لي عند الله ، يؤديها إلي يوم القيامة ، ، اللهم أنت غياثي بك أستغيث ، وأنت ملاذي بك ألوذ ، وأنت عياذي بك أعوذ ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة ، وخضعت له أعناق الفراعنة ، أعوذ بك من خزيك ، ومن كشف سترك ، ونسيان ذكرك ، والانصراف عن شكرك ، أنا في حرزك ليلي ونهاري ، ونومي وقراري ، وظعني وأسفاري ، وحياتي ومماتي ، ذكرك شعاري ، وثناؤك دثاري ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك تشريفا لعظمتك ، وتكريما لسبحات وجهك ، أجرني من خزيك ومن شر عبادك ، واضرب علي سرادقات حفظك ، وأدخلني في حفظ عنايتك ، وجد علي منك بخير ، يا أرحم الراحمين " اللهم إني أعوذ بنور قدسك ، وعظيم بركتك ، وعظمة طهارتك ، من كل آفة وعاهة ، ومن طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير . قال عبد الأعلى : قال الفضل : فحفظته ، فلم يغضب علي بعد ذلك . فهذا أول بركة الرشيد . الشافعي
حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد ، ثنا زاهر بن محمد بن الفيض بن صقر [ ص: 81 ] الحميري الشيرازي ، بها إملاء من أصله ، ثنا منصور بن عبد العزيز الثعلبي ، بمصر ، ثنا محمد بن إسماعيل بن الحبال الحميري ، عن أبيه ، قال : رجلا شريفا ، وكان يطلب اللغة والعربية والفصاحة والشعر في صغره محمد بن إدريس الشافعي ، وكان كثيرا ما يخرج إلى البدو ويحمل ما فيه من الأدب ، فبينا هو ذات يوم في حي من أحياء العرب إذ جاء إليه رجل بدوي ، فقال له : ما تقول في امرأة تحيض يوما وتطهر يوما ؟ فقال : لا أدري . فقال له : يا ابن أخي ، الفضيلة أولى بك من النافلة ، فقال له : إنما أريد هذا لذاك ، وعليه قد عزمت ، وبالله التوفيق ، وبه أستعين ، ثم خرج إلى كان ، وكان مالك بن أنس مالك صدوقا في حديثه ، صادقا في مجلسه ، وحيدا في جلوسه ، فدخل عليه ، وارتفع على أصحابه ، فنهره مالك ، فوجده موقرا في الأدب ، فرفعه على أصحابه ، وقدمه عليهم ، وقربه من نفسه ، فلم يزل مع مالك إلى أن توفي مالك رحمه الله ، ثم خرج إلى اليمن ، وقد خرج بها الخارجي على ، وطعن هارون الرشيد عليه ، وأعرض عمن ساعده ، ورفع من قعد عنه ، فبلغ ذلك الخارجي ما يقول فيه ، فبعث إليه ، فأحضره عنده ، وهم بقتله ، فلما سمع كلامه ، وتبين له شرفه وفضله وعفته عفا عنه ، وعرض عليه قضاء الشافعي اليمن ، فامتنع من ذلك ، ثم أشخص هارون جيشه إلى ذلك الخارجي ، فقبض عليه وحمل إلى بساط السلطان ، وحمل معه ، وأحضرا جميعا بين يدي الشافعي ، فأمر بقتلهما ، فقال له الرشيد : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تسمع كلامي ، وتجعل عقوبتك من وراء لساني ، ثم تضمني بعد ذلك إلى ما يليق لي من الشدة أو الرخاء ؟ فقال له : هات . فبين له القصة ، وعرفه شرفه ، وذكر له كلاما استحسنه الشافعي هارون ، وأمره أن يعيده عليه ، فأعاد تلك المعاني بألفاظ أعذب منها ، فقال له هارون : كثر الله في أهل بيتي مثلك . وكان محمد بن الحسن حاضرا ، فلم يقصر ، وخلى له السبيل ، وسأله محمد بن الحسن ، فنزل عليه أياما ، ثم سأله أن يمكنه من كتبه ، وكتب الشافعي ، فأجابه إلى ذلك ثلاث ليال ، وكان أبي حنيفة قد استبعد الوراقين ، فكتبوا له منها ما أراد ، ثم خرج إلى الشافعي الشام ، فأقام بها مدة ينقض [ ص: 82 ] أقاويل ، ويرد عليه حتى دون كلامه ، ثم استخار في الرد على أبي حنيفة مالك ، فأري ذلك في المنام ، فرد عليه خمسة أجزاء من الكلام - أو نحو ذلك - ثم خرج إلى مصر ، والدار لمالك وأصحابه يحكمون فيه ، ويستسقون بموطئه ، فلما عاينوه فرحوا به ، فلما خالفهم ، وثبوا عليه ، ونالوا منه ، فبلغ ذلك سلطانهم ، فجمعهم بين يديه ، فلما سمع كلامه ، وتبين له فضله عليهم ، قدمه عليهم ، وأمره أن يقعد في الجامع ، وأمر الحاجب أن لا يحجبه أي وقت جاء ، فلم يزل أمره يعلو ، وأصحابه يتزايدون إلى أن وردت مسألة من يدعو الناس إليها ، وقد استكتمها الفقهاء ، فأجابوه إلى ذلك ، وقبلوها منه طوعا ، ومنهم كرها ، فجيء بالمسألة إلى هارون الرشيد ، فلما نظر فيها قال : غفل والله أمير المؤمنين عن الحق ، وأخطأ المسير عليه بهذا ، وحق الله علينا أوجب وأعظم من حق أمير المؤمنين ، وهذا خلاف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلاف ما اعتقدته الأئمة والخلف . فكتب بذلك إلى الشافعي هارون ، فكتب في حمله مقيدا ، فحمل حتى أحضر في دار أمير المؤمنين ، فأجلس في بعض الحجر ، ثم دخل محمد بن الحسن وبشر المريسي جميعا ، فقال لهما : القرشي الذي خالفنا في مسألتنا قد أحضر في دارنا مقيدا ، فما الذي تقولان في أمره ؟ فقال هارون الرشيد محمد بن الحسن : يا أمير المؤمنين ، وقد بلغني أيضا أنه قد خالف صاحبه وقد رد عليه ، وعلى صاحبي أيضا ، وجعل لنفسه مقالة يدعو الناس إليها ، ويتشبه بالأئمة ، فإن رأيت أن تحضره حتى نبلو خبره ونقطع حجته ، ثم تضاعف عليه عقوبة أمير المؤمنين . فدعا به بقيده ، فأحضر بين يدي أمير المؤمنين ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، وبقي قائما طويلا لا يؤذن له بالجلوس ، وأمير المؤمنين مقبل عليهما دونه ، ثم أومأ إليه ، فجلس بين الناس ، فقال محمد بن الحسن : هات مسألة يا شافعي نتكلم عليها ، فقال له : سلوني عما أحببتم ، فتجرد الشافعي بشر ، وقال له : لولا أنك في مجلس أمير المؤمنين وطاعته فرض ، لننزلن بك ما تستحقه ، فليس أنت في كنف العمر ، ولا أنت في ذمة العلم ، فيليق بك هذا . فقال له : عض ما أنت . وذا بلغة الشافعي أهل اليمن ، [ ص: 83 ] فأنشأ يقول :
أهابك يا عمرو ما هبتني وخاف بشراك إذ هبتني وتزعم أمي عن أبيه
من أولاد حام بها عبتني
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا
من قضت الرجال له حقوقا ولم يعص الرجال فما أصابا
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم
فأجابه ، وهو يقول : الشافعيسيعلم ما يريد إذا التقينا بشط الراب أي فتى أكون
أخذت نارا بيدي أشعلتها في كبدي
فقلت ويحي سيدي قتلت نفسي بيدي