حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني إبراهيم بن يحيى الزبيدي ، قال : لما حمل إلى ذو النون بن إبراهيم جعفر المتوكل أنزله في بعض الدور وأوصى به زرافة . وقال : أنا إذا رجعت غدا من ركوبي فأخرج إلي هذا الرجل ، فقال له زرافة : إن أمير المؤمنين قد أوصاني بك ، فلما رجع من الغد من الركوب قال له : انظر بأن تستقبل أمير المؤمنين بالسلام ، فلما أخرجه إليه قال له : سلم على أمير المؤمنين ، فقال : " ليس هكذا جاءنا الخبر ، إنما جاءنا في الخبر أن ذو النون " . قال : فتبسم أمير المؤمنين وبدأه بالسلام ، فنزل إليه أمير المؤمنين ، فقال له : أنت زاهد الراكب يسلم على الراجل أهل مصر ؟ قال : " كذا يقولون " .
فقال له زرافة : فإن أمير المؤمنين يحب أن يسمع من كلام الزهاد . قال : فأطرق مليا ثم قال : " يا أمير المؤمنين إن الجهل علق بنكتة أهل الفهم ، يا أمير المؤمنين إن لله عبادا عبدوه بخالص من السر فشرفهم بخالص من شكره ، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغا حتى إذا صارت إليه ملأها من سر ما أسروا إليه ، أبدانهم دنيوية وقلوبهم سماوية ، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السماوات ، لم يخبتوا في ربيع الباطل ولم يرتعوا في مصيف الآثام ، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره ، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم وبلذة من العيش مزهودة ، فأولئك الذين أجلسهم على كراسي أطباق أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء ، فجعل تلامذتهم أهل الورع والبصر .
فقال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه أو مريض من تذكري فأدنوه ، أو ناس لنعمتي فذكروه ، أو مبارز لي بالمعاصي فنابذوه ، أو محب لي فواصلوه ، يا أوليائي فلكم عاتبت ولكم خاطبت ومنكم الوفاء طلبت ، لا أحب استخدام [ ص: 338 ] الجبارين ، ولا تولي المتكبرين ، ولا مصافاة المترفين ، يا أوليائي وأحبابي جزائي لكم أفضل الجزاء ، وإعطائي لكم أفضل العطاء ، وبذلي لكم أفضل البذل ، وفضلي عليكم أوفر الفضل ، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ، ومطالبتي لكم أشد مطالبة ، وأنا مقدس القلوب وأنا علام الغيوب ، وأنا عالم بمجال الفكر ، ووسواس الصدور ، من أرادكم قصمته ومن عاداكم أهلكته " .
ثم قال : " بحبك وردت قلوبهم على بحر محبته فاغترفت منه ريا من الشراب فشربت منه بمخاطر القلوب ، فسهل عليها كل عارض عرض لها عند لقاء المحبوب ، فواصلت الأعضاء المبادرة ، وألفت الجوارح تلك الراحة ، فهم رهائن أشغال الأعمال ، قد اقتلعتهم الراحة بما كلفوا أخذه عن الانبساط بما لا يضرهم تركه . قد سكنت لهم النفوس ورضوا بالفقر والبؤس واطمأنت جوارحهم على الدءوب على طاعة الله عز وجل بالحركات ، وظعنت أنفسهم عن المطاعم والشهوات ، فتوالهوا بالفكرة ، واعتقدوا بالصبر ، وأخذوا بالرضا ، ولهوا عن الدنيا ، وأقروا بالعبودية للملك الديان ، ورضوا به دون كل رقيب وحميم ، فخشعوا لهيبته ، وأقروا له بالتقصير ، وأذعنوا له بالطاعة ، ولم يبالوا بالقلة إذا خلوا بأقل بكاء ، وإذا عوملوا فإخوان حياء ، وإذا كلموا فحكماء ، وإذا سئلوا فعلماء ، ذو النون ، فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور ، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور ، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوبا لينة منكسرة ، وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب عامرة ، لا يشغلون قلوبهم بغيره ، ولا يميلون إلى ما دونه ، قد ملأت وإذا جهل عليهم فحلماء صدورهم ، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة ، إخوان صدق وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين ، قطعوا الأودية بغير مفاوز ، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق ، واستعانوا بالحق على الباطل فأوضح لهم الحجة ، ودلهم على المحجة فرفضوا طريق المهالك وسلكوا خير المسالك ودلهم ، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب ، وبهم تفتح الأبواب ، وبهم ينشأ السحاب ، وبهم يدفع العذاب ، وبهم يستقي العباد والبلاد فرحمة الله علينا وعليهم " . محبة الله
[ ص: 339 ] سمعت - المذكور أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي بنيسابور - يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " : بالنظر في الأمور كيف دبرها ، وفي المقادير كيف قدرها ، وفي الخلائق كيف خلقها ؟ " . تنال المعرفة بثلاث
حدثنا محمد بن إبراهيم ، ثنا عبد الحكم بن أحمد بن سلام الصدفي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : قرأت في باب مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه : " . يقدر المقدرون ، والقضاء يضحك
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر - من أصله - ، ثنا المفسر - سنة ثمان وثمانين ومائتين - ثنا أبو بكر الدينوري محمد بن أحمد الشمشاطي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " وهيج أرواحهم بالشوق إلى رؤيته ، فسبحان من شوق إليه أنفسهم ، وأدنى منه هممهم وصفت له صدورهم ، سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم ، إلهي لك تواضعت أبدانهم منك إلى الزيادة ، انبسطت أيديهم ما طيبت به عيشهم ، وأدمت به نعيمهم ، فأذقتهم من حلاوة الفهم عنك ، ففتحت لهم أبواب سماواتك ، وأتحت لهم الجواز في ملكوتك ، بك أنست محبة المحبين ، وعليك معول شوق المشتاقين وإليك حنت قلوب العارفين ، وبك آنست قلوب الصادقين ، وعليك عكفت رهبة الخائفين ، وبك استجارت أفئدة المقصرين ، قد بسطت الراحة من فتورهم ، وقل طمع الغفلة فيهم ، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم ولا يفترون عن التعب والسهر ، يناجونه بألسنتهم ويتضرعون إليه بمسكنتهم ، يسألونه العفو عن زلاتهم والصفح عما وقع الخطأ به في أعمالهم ، فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار الذين تدفقت قلوبهم ببره ، وعاملوه بخالص من سره حتى خفيت أعمالهم عن الحفظة فوقع بهم ما أملوا من عفوه ووصلوا بها إلى ما أرادوا من محبته ، فهم والله إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محض محبته الذين حملوا أثقال الزمان ، فلم يألموا بحملها ، وقفوا في مواطن الامتحان فلم تزل أقدامهم عن مواضعها حتى مال بهم [ ص: 340 ] الدهر ، وهانت عليهم المصائب ، وذهبوا بالصدق والإخلاص عن الدنيا . الزهاد والسادة من العباد
إلهي فيك نالوا ما أملوا ، كنت لهم سيدي مؤيدا ، ولعقولهم مؤديا ، حتى أوصلتهم أنت إلى مقام الصادقين في عملك ، وإلى منازل المخلصين في معرفتك ، فهم إلى ما عند سيدهم متطلعون ، وإلى ما عنده من وعيده ناظرون ، ذهبت الآلام عن أبدانهم لما أذاقهم من حلاوة مناجاته ، ولما أفادهم من ظرائف الفوائد من عنده ، فيا حسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته ، وهدأت عنهم أصوات خليقته ، وقدموا إلى سيدهم الذين له يأملون ، فلو رأيت أيها البطال أحدهم وقد قام إلى صلاته وقراءته ، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله ، فقلوبهم في ملكوت السماوات معلقة ، وأبدانهم بين أيدي الخلائق عارية وهمومهم بالفكر دائمة ، فما ظنك بأقوام أخيار أبرار ، وقد خرجوا من رق الغفلة واستراحوا من وثائق الفترة وأنسوا بيقين المعرفة ، وسكنوا إلى روح الجهاد والمراقبة ، بلغنا الله وإياكم هذه الدرجة " .
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا ، ح وحدثنا أبو بكر الدينوري محمد بن إسحاق الشمشاطي ، قال : سمعت يقول : بينا أنا أسير في جبال ذا النون أنطاكية وإذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف فسلمت عليها ، فردت السلام ، ثم قالت : ألست ذا النون المصري ، قلت : عافاك الله كيف عرفتيني ؟ قالت : فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال معرفة حب الحبيب ، ثم قالت : أسألك مسألة ؟ قلت : سليني قالت قلت : البذل والعطاء قالت : هذا السخاء في الدنيا فما أي شيء السخاء ؟ ؟ قلت : المسارعة إلى طاعة المولى ، قالت : فإذا سارعت إلى طاعة المولى تحب منه خيرا ؟ قلت : نعم للواحد عشرة ، قالت : مر بإبطال هذا ، هذا في الدين قبيح ، ولكن السخاء في الدين ، ويحك يا المسارعة إلى طاعة المولى أن يطلع إلى قلبك وأنت لا تريد منه شيئا بشيء إني أريد أن أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجر ، ولكن أعمل تعظيما لهيبته وعز جلاله ، قال : ثم مرت وتركتني . ذا النون
[ ص: 341 ] حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، وأحمد بن محمد بن أبان ، قالا : ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني ، قال : بينا أنا في بعض مسيري إذ لقيتني امرأة فقالت لي : من أين أنت ؟ قلت : رجل غريب ، فقالت لي : ويحك وهل يوجد مع الله أحزان الغربة ؟ وهو مؤنس الغرباء ، ومعين الضعفاء ؟ قال : فبكيت ، فقالت لي : ما يبكيك ؟ قلت : وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع لي نجاحه ، قالت : فإن كنت صادقا فلم بكيت ؟ قلت : والصادق لا يبكي ؟ قالت : لا ، قلت : ولم ؟ قالت : لأن ذو النون ، وملجأ يلجأ إليه ، وما كتم القلب شيئا أحق من الشهيق والزفير ، فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب ، وهذا ضعف الأطباء بإبطال الداء ، قال : فبقيت متعجبا من كلامها ، فقالت لي : ما لك ؟ قلت : تعجبت من هذا الكلام ، قالت : وقد نسيت القرحة التي سألت عنها ؟ قلت : لا ، ما أنا بالمستغني عن طلب الزوائد ، قالت : صدقت ، البكاء راحة للقلب ، واشتق إليه فإن له يوما يتجلى فيه على كرسي كرامته لأوليائه وأحبائه فيذيقهم من محبته كأسا لا يظمئون بعده أبدا ، قال : ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق ، وهي تقول : سيدي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها أحدا يسعفني على البكاء أيام حياتي - ثم تركتني ومضت . حب ربك سبحانه
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : سمعت يقول : كم من مطيع مستأنس ، وكم عاص مستوحش ، وكم من محب ذليل ، وكل راج طالب قال : وسمعته يقول : اعلموا أن ذا النون ويزهد فيما عند غيره ، ويكف أذاه ويحتمل الأذى عن غيره والكريم يعطي قبل السؤال ، فكيف يبخل بعد السؤال ؟ ويعذر قبل الاعتذار ، فكيف يحقد بعد الاعتذار ؟ ويعف قبل الامتناع فكيف يطمع في الازدياد ، قال : وسمعته يقول : ثلاثة من العاقل يعترف بذنبه ، ويحس بذنب غيره ، ويجود بما لديه : الرضا في المكروه ، وحسن الظن في المجهول ، والتحسين في الاختيار في المحذور ، وثلاثة من أعلام المحبة : الأنس به في جميع الأحوال ، والسكون إليه في جميع الأعمال ، وحب الموت بغلبة الشوق في جميع الأشغال ، وثلاثة من أعلام الصواب : النظر إلى الله تعالى [ ص: 342 ] في كل شيء ، والرجوع إليه في كل أمر ، والاستعانة به في كل حال ، وثلاثة من أعمال اليقين : السخاء بالموجود ، وترك الطلب للمفقود ، والاستنابة إلى فضل الموجود ، وثلاثة من أعمال الثقة بالله : المقاربة من الإخوان في النعمة ، واستغنام قضاء الحوائج قبل العطية ، واستقلال الشكر لملاحظة المنة ، وثلاثة من أعمال الشكر : ترك الاختيار قبل القضا ، وفقدان المرارة بعد القضا ، وهيجان الحب في حشو البلا ، وثلاثة من أعلام الرضى : استلذاذ الخلوة ، والاستيحاش من الصحبة ، واستحلاء الوحدة ، وثلاثة من أعلام أعمال الأنس بالله : قوة القلب ، وفسحة الرجا في الزلة ، ونفي الإياس بحسن الإنابة ، وثلاثة من حسن الظن بالله : حب الموت مع الراحة وبغض الحياة مع الدعة ، ودوام الحزن مع الكفاية " . أعلام الشوق