أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت ، يقول : سأل سائل الجنيد بن محمد الحارث بن أسد : ؟ قال : " لأنك لا تخاف عظيم حجة الله عليك فيما علمت ، وضيعت العمل لله فيما أوجبه عليك ، ولم تقدم العزم أن تقوم بما تستفيد من العلم فيما تستزيد منه ، وكان يحق عليك أن تكون [ ص: 96 ] بما علمت ، ولزمتك من الله أعظم الحجة ; لأنك إن تضيع حق الله وأنت لا تعلم خير من أن تضيع حق الله وأنت تعلم ; لأن الجاهل لا يؤتى بتعمد من قلبه ، ولا جرأة واستخفافا باطلاع ربه ، والعالم بما يأتي متعمدا ترك حق ربه بقلة رهبة من الله ، متهاون بنظر الله ، متعرض لسخطه ، وهو يعلم ويتشوق لحرمان جوار الله وهو يبصر ، فآثر القليل الفاني على العظيم الباقي ، وولى على النجاة من العذاب ، وسلك الطريق إلى عذاب الجحيم ، وسمحت نفسه بالجنة ، وأسلمها لأيدي العقوبة ، قلت : إني ما بالي أغتم على ما يفوتني من العلم ولا أعمل بما استفدت منه ، فقال : ثقل عليك كظم الغيظ ، وخف عليك الاشتفاء ، قلت : مم ثقل علي كظم الغيظ وخف علي التشفي ؟ قال : لأنك تعد الحلم ذلا ، وتستعمل السفه أنفا ، قلت : لا أقوى على الحلم عند الشتم والأذى ؟ قال : بصبر النفس ، وحبس الجوارح ، قلت : فبم أقوى على كظم الغيظ ؟ قال : بأن تعقل وتعلم أن الحلم عز وزين ، والسفه ذل وشين ، قلت : كيف أعقل ذلك وقد حل بقلبي ضده فغلب عليه أني إن صبرت على كظم الغيظ كان ذلك إذلالا لي ممن آذاني ، ولزم قلبي الأنف أن يكون من شتمني قد قهرني وعجزت عن الانتقام منه وإشفاء غيظي ؟ قال : إنما لزم قلبك ذلك ; لأنك لم تعقل ظاهر قبح السفه منك ، وحسن ستر الحلم عليك ، وجزيل مثوبة الله لك في آخرتك ، قلت : وبم أعرف هاتين الخصلتين ؟ قال : أما قبح السفه وزوال حسن رد الحلم فيما ترى من أحوال شاتمك ومؤذيك بالغيظ والغضب من لونه وفتح عينيه ، وحمرة وجهه ، وانقلاب عينيه ، وكراهية منظره ، واستخفافه بنفسه ، وزوال السكينة والوقار عن بدنه ، فأنت تبين ذلك منه ، ويراه كل عاقل من فاعله ، فإذا بليت بذلك فاذكر بم أجتلب صبر النفس وكف الجوارح ، فإن الاشتفاء ينقضي سريعا ، ويبقى سوء عاقبته في آخرتك ، وكظم غيظك يسكن سريعا ، ويدخر ثواب الله بذلك في معاده ، ولا ينبغي للعاقل أن يرضى بدناءة نفسه وسوء رغبته ، بأن يكون ممن ترضيه [ ص: 97 ] اللمحة ، فيستشرق لها وجهه فرحا ، وتغضبه الكلمة فيستطير من أجلها سفها حتى يظلم لها وجهه ، وتضطرب لها فرائصه ، وإنما هي كلمة لم تعد قائلها إلى المشتوم بها ، ولكنها أزرت بقائلها ، وأوجبت السفه عليه في آخرته ، واستخف بنفسه ، ولم تضر من أسمعها في دين ولا دنيا ، فقائلها والله يستحق أن يرحم لما قد أنزل بنفسه ووضع من قيمته وقدره ، وعصى بها ربه ، وعلى المشتوم بها الشكر لله ؛ إذ لم يسلمه الله ولم يخذله ، حتى يصير مثل حال شاتمه مع ما قد صار له من التبعة في رقبته يأخذها منه في يوم فاقته وفقره ، ما أعد الله سبحانه وتعالى للكاظمين الغيظ من إيجاب محبته ، وجزيل ثوابه في عقله ورأيه ، والسليم القلب المتيقظ عن ربه الغافل عن عيوب العباد ، المتفقد لعيوب نفسه ، وأنس المريد الوحشة من العباد ، مع دوام الذكر لله بقلبه ، وأول ما يرث المريد العارف بربه معرفته بدائه ودوائه إكرامه نفسه عن الشر ودناءة الأخلاق ، وعظيم الهمة بالظفر بما يرضي الله يطير معه النوم ، ويقل معه النسيان ، ومن صدق العالم في علمه اهتمامه بمعرفة معاني الزوائد ، ليقوم لربه بحسن الرعاية ، وطلب الصمت مع الفكرة ، والأنس بالعزلة يبعث على طلب معاني الحكمة ، ودوام التوهم بنظر القلب إلى شدائد القيامة يزول به السرور بالدنيا ، ويورث القلب الانكسار والبكاء به ، ويعمل على الاستعداد للعرض الأكبر والسؤال الأعظم " . وأكرم أخلاق المريد
أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - أخبرني أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قال الحارث بن أسد : " أصفى الأشياء من كل آفة - بل أن لا تقاربها الآفات - ; لأن الناصح متى قبل خطرة من رياء أو عجب أو غير ذلك مما كره الله فقد خرج من النصح بقدر قبوله لما يكره ربه ، وأهون الأشياء وأكثرها لدواعي الهوى ذكر عظيم سوء العاقبة في تعجيل اللذة للأشياء ، وأعون على التحمل للمكروه ذكر عظيم العاقبة في ثواب ما يحمله العبد من المكاره في التقرب إلى الله - عز وجل - النصح لله طول التوحش والانفراد من الخلق ، مع طول الفكر ودوامه في عواقب الأمور ليوم العرض ، ممن لم يمكنه الخلوة والانفراد ، وطول الصمت مع دوام الذكر للرقيب لما أحب من المحبوب والمكروه ، وأعون الأشياء على استجلاب الأحزان من [ ص: 98 ] شهوة التقدم في إلزام القلب الحذر من الغفلة عن الرب - عز وجل - وأجلب الأشياء للذكر وأطرده للنسيان شدة العناية بعمران القلب بذكر المولى ، لأنه إذا قدم العناية وألزمها قلبه لا يغفل قلبه عن ذكر المولى ، هاج للذكر وتفرغ عن النسيان ، قال : وسئل وأجلب الأشياء لتيقظ القلب الحارث ، فقال : ينال بثلاث خلال ، والمخلص في بعضها أقوى من بعض ، ودواعي الرياء عليه أقل وأضعف ، وهو في بعضها أضعف إخلاصا ، والدواعي عليها أكبر وأقوى ، فأعلاها التي يكون بها المخلص أقوى المخلصين ، والخطرات عليه أقل وأضعف - تعظيم قدر الرب وإجلاله ، واستصغار قدر المخلوقين أنهم لا يستأهلون أن يتقرب إليهم بطاعة الرب ، حتى يضعهم العبد بحيث وضعهم الله من الحاجة والفاقة والمسكنة ، إذ خلقهم المولى من ملك الضر والنفع ، ولم يجعل لأحد من الخلق شركة في الأشياء ، ولا يليق بهم ذلك ، وذلك مستحيل أن يملك العبد المحدث مع القديم الأول مثقال ذرة لا أصغر ولا أكبر ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، فإن أعظم قدر الرب بقلبه ، وأنزل عباده بالمنزل الذي هم به ، انصرف قلبه عن طلب حمد المخلوقين ، إذ عرف قدرهم ، وانصرفت نفسه عنهم في طلب كل منفعة دنيا وآخرة ، وارتاح قلبه لطلب حمد الله والتحبب إلى الله ، إذ عرف قدره وأن إليه حاجته في الدنيا والآخرة ، وأنه لا ينال منفعة فيهما إلا منه ، وأنه أهل أن يرجى ويؤمل جوده وكرمه ، فإن لم يقو على هذه الخلة ، فالخلة الثانية أن يذكر اطلاع الله على ضميره ، وهو يريد بطاعته حمد عبد مملوك ضعيف يتحبب إليه بالمقت إلى مولاه ، ويتقرب إليه بالتباعد من سيده ، ويحظى في عين عبد مملوك ضعيف يبلى ويموت بالسقوط من عين الإله الذي لا يموت ، فإنه حينئذ يستكين عقله ويخشع طبعه من قبول كل خطرة تدعوه إلى إرادة المخلوقين بطاعة ربه ، فإن لم يقو على هذه الخلة ، فالخلة الثالثة أن يرجع إلى نفسه بالرحمة لها والإشفاق عليها من حبط عمله في يوم فاقته وفقره ، فيبقى خاسرا قد حبط إحسانه وخسر عمله ، ثم لا يأمن أن يكون ذلك لو أخلصه لرجحت حسناته على سيئاته قبحا لها إذا أراد به العباد ، فتبقى حسناته خفيفة [ ص: 99 ] وسيئاته راجحة ، فيؤمر به إلى عذاب الله ، فيتلهف أن لا يكون أخلصه لربه ، فنجا من عذاب الله مع سؤال الله والتوبيخ منه والتعيير إذا أراد به العباد ، ولها عنه تعالى ، وتقرب إليهم بالتباعد منه " . عما ينال به الإخلاص
أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ، قال ، وسئل ما أبو عبد الله الحارث بن أسد ؟ فقال للسائل : ما الذي كشف لك عن طلب علم هذا ؟ فقال : قوله تعالى : ( علامة محبة الله للعبد إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فعلمت أن علامة محبة العبد لله اتباع رسوله ، ثم قال : ( يحببكم الله ) فما علامة محبة الله للعبد ؟ فقال : " لقد سألت عن شيء غاب عن أكثر القلوب ، إن علامة محبة الله للعبد أن يتولى الله سياسة همومه ، فيكون في جميع أموره هو المختار لها ، ففي الهموم التي لا تعترض عليها حوادث القواطع ، ولا تشير إلى التوقف ؛ لأن الله هو المتولي لها ، فأخلاقه على السماحة ، وجوارحه على الموافقة ، يصرخ به ويحثه بالتهدد والزجر ، فقال السائل : وما الدليل على ذاك ؟ فقال : خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ، وزاجرا من قلبه ، يأمره وينهاه إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه ، " فقال السائل : زدني من علامة محبة الله للعبد ، قال : ، والمحافظة عليها ، ثم بعد ذاك كثرة النوافل ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : " ليس شيء أحب إلى الله من أداء الفرائض بمسارعة من القلب والجوارح ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه " ، فقال السائل : رحمك الله صف لي من علامات وجود قلبه ، قال : محبوسة يا فتى في سر الملاطفة ، مخصوصة بعلم المكاشفة ، مقلبة بتنعم النظر في مشاهدة الغيب ، وحجاب العز ، ورفعة المنعة ، فهي القلوب التي أسرت أوهامها بعجب نفاذ إتقان الصنع ، فعندها تصاعدت المنى ، وتواترت على جوارحها فوائد الغنى ، فانقطعت النفوس عن كل ميل إلى راحة ، وانزعجت الهموم وفرت من [ ص: 100 ] الرفاهة ، فنعمت بسرائر الهداية ، وعلمت طرق الولاية ، وغذيت من لطيف الكفاية ، وأرسلت في روضة البصيرة ، وأحلت القلوب محلا نظرت فيه بلا عيان ، وجالت بلا مشاهدة ، وخوطبت بلا مشافهة ، فهذا يا فتى من أهل المراقبة والحياء والرضا والتوكل ، فهم الأبرار من العمال ، وهم الزهاد من العلماء ، وهم الحكماء من النجباء ، وهم المسارعون من الأبرار ، وهم دعاة الليل والنهار ، وهم أصحاب صفاء التذكار ، وأصحاب الفكر والاعتبار ، وأصحاب المحن والاختبار ، هم قوم أسعدهم الله بطاعته ، وحفظهم برعايته ، وتولاهم بسياسته ، فلم تشتد لهم همة ، ولم تسقط لهم إرادة ، همومهم في الجد والطلب ، وأرواحهم في النجاة والهرب ، يستقلون الكثير من أعمالهم ، ويستكثرون القليل من نعم الله عليهم ، إن أنعم عليهم شكروا ، وإن منعوا صبروا ، يكاد يهيج منهم صراخ إلى مواطن الخلوات ، ومعابر العبر والآيات ، فالحسرات في قلوبهم تتردد ، وخوف الفراق في قلوبهم يتوقد ، نعم يا فتى ، هؤلاء قوم أذاقهم الله طعم محبته ، ونعمهم بدوام العذوبة في مناجاته ، فقطعهم ذلك عن الشهوات ، وجانبوا اللذات ، وداموا في خدمة من له الأرض والسماوات ، فقد اعتقدوا الرضا قبل وقوع البلا ، ومنقطعين عن إشارة النفوس ، منكرين للجهل المأسوس ، طاب عيشهم ، ودام نعيمهم ، فعيشهم سليم ، وغناهم في قلوبهم مقيم ، كأنهم نظروا بأبصار القلوب إلى حجب الغيوب فقطعوا ، وكان الله المنى والمطلوب ، دعاهم إليه فأجابوه بالحث والجد ودوام السير ، فلم تقم لهم أشغال إذ استبقوا دعوة الجبار ، فعندها يا فتى غابت عن قلوبهم أسباب الفتنة بدواهيها ، وظهرت أسباب المعرفة بما فيها ، فصار مطيتهم إليه الرغبة ، وسائقهم الرهبة ، وحاديهم الشوق ، حتى أدخلهم في رق عبوديته ، فليس تلحقهم فترة في نية ، ولا وهن في عزم ، ولا ضعف في حزم ، ولا تأويل في رخصة ، ولا ميل إلى دواعي غرة ، قال السائل : أرى هذا مرادا بالمحبة . قال : نعم يا فتى ، هذه صفة المرادين بالمحبة ، فقال : كيف المحن على هؤلاء ؟ فقال : سهلة في علمها ، صعبة في اختيارها ، فمحنهم على قدر قوة إيمانهم ، قال : فمن أشدهم محنا ؟ قال : [ ص: 101 ] أكثرهم معرفة وأقواهم يقينا وأكملهم إيمانا ، كما جاء في الخبر : " صفة أهل محبة الله أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .