أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت ، يقول : سئل الجنيد بن محمد الحارث بن أسد عن قول الله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، وعن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ، تغدو خماصا وتروح بطانا لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير " ؟ صف لي كيف هو ؟ وكيف دخول الناس فيه ؟ فقال ما السبيل أكرم الله وجهك إلى هذا التوكل الذي ندب الله المؤمنين إليه الحارث رحمه الله : " الناس يتفاوتون في التوكل ، وتوكلهم على قدر إيمانهم وقوة علومهم ، قيل : ما معنى قوة إيمانهم ؟ قال : تصديقهم للعدة ، وثقتهم بالضمان ، قيل : فمن أين فضلت الخاصة منهم على العامة ، والتوكل في اعتقاد الإيمان مع كل من آمن بالله ؟ قال : دوام سكون القلب عن الاضطراب ، والهدوء عن الحركة ، فعندها يا فتى استراحوا من عذاب الحرص ، وفلوا من أسر الطمع ، وخرجوا من ضيق طول الأمل ، قيل : فما الذي ولد هذا ؟ قال : حالتان : الأولى منهما دوام لزوم القلب المعرفة ، والاعتماد على الله ، وترك [ ص: 104 ] الحيل ، والثانية كثرة الممارسة حتى يألفها إلفا ، ويختارها اختيارا ، قيل : الذي فضلت به الخاصة على العامة ؟ وما معناه ؟ قال : قد اختلف الناس فيه ، قيل له : اختصر منه جوابا موجزا ، قال : نعم ، التوكل هو الاعتماد على الله بإزالة الطمع من سوى الله ، وترك تدبير النفوس في الأغذية ، والاستغناء بالكفاية ، وموافقة القلب لمراد الرب ، والقعود في طلب العبودية ، واللجأ إلى الله ، قيل : فالتوكل في نفسه ما هو ؟ قال : يلحقه الأطماع من طريق الطباع خطرات ، ولا يضره ذلك شيئا ، قيل : فما الذي يقويه على إسقاط الطمع ؟ قال : اليأس مما في أيدي الناس حتى يكون بما معه من الثقة بما وعده سيده أغنى ممن يملك الدنيا بحذافيرها ، كما قيل فهل يلحق التوكل الأطماع لأبي حازم : ألك مال ؟ قال : أكثر المال ثقتي بربي ، ويأسي مما في أيدي الناس ، وكان أبو حازم يقول : الدنيا شيئان : شيء لي ، وشيء لغيري ، فما كان لي لو طلبته بحيلة من في السماوات والأرض لم يأتني قبل أجله ، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي ، يمنع رزقي من غيري كما يمنع رزق غيري مني ، ففي أي هذين أفني عمري ؟ وكان بعضهم يقول :
اترك الناس فكل مشغله وقد بخل الناس بمثل الخردله لا تسل الناس وسل من أنت له
قيل : فما ؟ قال : ثلاث خصال : الأولى منها حسن الظن بالله ، والثانية نفي التهم عن الله ، والثالثة الرضا عن الله تعالى فيما جرى به التدبير لتأخير الأوقات وتعجيلها ، قيل : بم تلحق هذه المنزلة ؟ قال : بصفاء اليقين وتمامه ، فإن اليقين إذا تم سمي تمامه توكلا ، وهكذا قال الذي يقوي المتوكل ، فهم بالحالة العالية والمقام الشريف كما قال ذو النون المصري أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري : ما من حالة من حالات المتعبدين إلا وشيخك هذا قد دخل فيها وعرفها ، إلا هذا التوكل المبارك الذي ما أعرفه إلا بمشام الريح ، وقال : ذو النون المصري أدناها الإجابة وأعلاها صدق التوكل ، قيل : فما أجمل ما تراه القلوب في باطنها ويلحقها فكر خواطر الأطماع ؟ [ ص: 105 ] قال : تنبيها من الله بحرص الجوارح عن إشارة الأرواح فيما طمعت حياء من الله تعالى أن يراهم يستريحون إلى غيره ، كما قال الحكيم : المقامات سبع عشرة مقامة
مريدوه يستحيون أن يراهم يشيرون بالأرواح نحو سواه
قيل : هذا في الظاهر واليقظة ، فهل لهم زاجر في مناماتهم عند إشارة الأرواح ومطالعتها في خطرات الأطماع ؟ قال : قد روي عن النباحي ، قال : طمعت يوما في شيء من أمور الدنيا فحملتني عيناي ونمت ، فسمعت هاتفا في منامي وهو يقول : أويجمل يا فتى بالحر المريد إذا وجد عند مولاه كل ما يريد - أن يركن بقلبه إلى العبيد ؟ فهو - عز وجل - يزجرهم ويثبتهم ويريهم مواضع الشين والخلل ، ليعملوا في شدة تمام اليقين ، وكثرة السكون ، والاعتماد عليه دون خلقه ، فتكون لهم الزيادة في مقامهم ، وحسن اللجأ في افتقارهم إلى سيدهم ، فمرهم يا فتى على الاستواء ، قيل : فما ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ؟ قال : أي سببه بمعنى حسبي من كل شيء أن أتوكل عليه ، قيل : معنى قوله تعالى : ( ؟ قال : الأسباب التي فيها الحرص والمكابدة على الدنيا والأسباب التي تشغله عن دوام السكون وتزيد في الاضطراب وتقوي خوف الفوت ، وهي الأسباب التي تستعبده وتتعبه ، فتلك التي يؤمر بقطعها حتى يستريح بروح اليقين ، ويتفرج بحياة الاستغناء ، قيل : فما فما الأسباب التي تشين توكله ؟ قال : تحركه أزعاج المستبطئ فيما ضمن له من رزق ربه ، ولا تخلفه فترة المتواني عن فرصته ، قيل : أيجد هذا فقد شيء منعه ؟ قال : لا يجد فقده إذا منعه لعلة معرفته بحسن اختيار الله له أملا من الله أن يعوضه في حسن العواقب أفضل من إرادته بالعاجل ، كأنه يراه قريبا ، فمن هاهنا لا يجد فقد شيء منعه ، قيل : فما يقويه على هذه الحالة ؟ قال : حسن علمه بحسن تدبير الله له ، فعندها أسقط عن قلبه اختياره لنفسه ورضي بما اختار الله له " . علامة سكون المتوكل