أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت ، يقول : سمعت الجنيد بن محمد الحارث بن أسد ، يقول ، ، فقال : " هم الذين جعلهم الحق أهلا لتوحيده وإفراد تجريده [ ص: 106 ] والذابين عن ادعاء إدراك تحديده ، مصطنعين لنفسه ، مصنوعين على عينه ، ألقى عليهم محبة منه له ، ( ونعت المختصين بالمعرفة والإيمان واصطنعتك لنفسي ) ، ( ولتصنع على عيني ) ، ( وألقيت عليك محبة مني ) فأخذ أوصاف من صنعه لنفسه والمصنوع على عينه والملقى عليه محبة منه له ، أن لا يستقر لهم قدم علم على مكان ، ولا موافقة كفاء على استقرارهم ، ولا مناظرة عزم على تنفيذهم ، هم الذين جرت بهم المعرفة حيث جرى بهم العلم إلى نهاية غاية ، خنست العقول وبادت الأذهان ، وانحسرت المعارف ، وانقرضت الدهور ، وتاهت الحيرة في الحيرة عند نعت أول قدم نقلت لمرافقة وصف محل لمحة مما جرى عليهم العلوم التي جعلها لهم به له ، هيهات ذلك له ما له به عنده له ، فأين تذهبون ؟ أما سمعت طبه لما أبداه ، وكشفه ما رواه ، واختصاصه لسر الوحي لمن اصطفاه ؟ ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، شهد له أنه عبده وحده ، لم يجر عليه استعبادا لغيره يخفي ميل همة ، ولا إلمام شهوة ، ولا محادثة نظرة ، ولا معارضة خطرة ، ولا سبق حق بلفظه ، لا يسبق أهل الحق الحق بنطق ولا رؤية حظ بلمحة ، أوحى إليه حينئذ ما أوحى ، هيأه لفهم ما أولاه بما به تولاه واجتباه ، فحمل حينئذ ما حمل ، أوحى إليه حينئذ ما أوحى بالأفق الأعلى ، ضاقت الأماكن ، وخنست المصنوعات عن أن تجري فيها أو عليها ، أوحى ما أوحى إلا بالأفق الأعلى ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) انظر نظر من خلا في نظره من عين منظوره إلى السدرة حيث غشاها ( ما يغشى ) فثبتت لما غشاها ، وانظر إلى الجبل حيث تجلى له ( جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ) أن أعود لمسألتك الرؤيا بعد هذا المقام ، وإلى إكثاره ما فرط من سؤاله ، وإلى أن العلم لو صادف حقيقة الرسم لا يليق به الكتم ، وانظر إلى إخباره عن حبيبه ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) والعند هاهنا لا ينتهي مكانا ، إنما ينتهي وقت كشف علم لوقت ، وانظر إلى فضل الوقتين ومختلف المكانين ، وفرق ما بين المنزلتين في العلو والدنو ، وكذا فضلت عقول المؤمنين من العارفين ، فمنها من يطيق خطاب المناجاة مع علم قرب من ناجاه وأدناه ، فلا يستره في الدنو علم الدنو ، ولا في العلو علم [ ص: 107 ] العلو ، ومنها من لا يطيق ذلك ، فيجعل الأسباب هي المؤدية إليهم الفهم ، وبها يستدرك فهم الخطاب ، فيكون منه الجواب أن لا يقف عند قوله : ( أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ، وهذه أماكن يضيق بسط العلم فيها إلا عند المفاوضة لأهل المحاضرة ، وفي الاشتغال بعلم مسالك الطرقات المؤدية إلى علوم أهل الخاصة الذين خلوا من خلواتهم ، وبرئوا من إرادتهم ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، عصفت بهم رياح الفطنة ، فأوردتهم على بحار الحكمة ، فاستنبطوا صفو ماء الحياة ، لا يحذرون غائلة ، ولا يتوقعون نازلة ، ولا يشرهون إلى طلب بلوغ غاية ، بل الغايات لهم بدايات ، هم الذين ظهروا في باطن الخلق ، وبطنوا في ظاهره ، أمناء على وحيه ، حافظون لسره ، نافذون لأمره ، قائلون بحقه ، عاملون بطاعته : ( يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) جرت معاملتهم في مبادئ أمورهم بحسن الأدب فيما ألزمهم القيام به من حقوقه ، فلم تبق عندهم نصيحة إلا بذلوها ، ولا قربة إلا وصلوها ، سمحت نفوسهم ببذل المهج عند أول حق من حقوقه في طلب الوسيلة إليه ، فبادرت غير مبقية ولا مستبقية ، بل نظرت إلى أن الذي عليها في حين بذلها أكثر بحالها مما بذلت ، لوائح الحق إليها مشيرة ، وعلوم الحق لديها غزيرة ، لا توقفهم لائمة عند نازلة ، ولا تثبطهم رهبة عند فادحة ، ولا تبعثهم رغبة عند أخذ أهبة بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " .
أخبرنا جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه عثمان ، قال : سمعت ، يقول : سئل الجنيد بن محمد الحارث بن أسد وقيل له : رحمك الله ، ما علامة ؟ قال : " التوحش من الخلق ، قيل له : فما علامة التوحش من الخلق ؟ قال : الفرار إلى مواطن الخلوات ، والتفرد بعذوبة الذكر ، فعلى قدر ما يدخل القلب من الأنس بذكر الله يخرج التوحش ، كما قال بعض الحكماء في مناجاته : يا من آنسني بذكره ، وأوحشني من خلقه ، وكان عند مسرتي ارحم عبرتي ، وفي قول الله تعالى الأنس بالله لداود - عليه السلام - : كن بي مستأنسا ، ومن [ ص: 108 ] سواي مستوحشا " . وقيل لبعض المتعبدين : ما فعل فلان ؟ قال : أنس فتوحش ، وقيل لرابعة : بم نلت هذه المنزلة ؟ قالت : بتركي ما لا يعنيني ، وأنسي بمن لم يزل يواليني ، وقال في بعض كلامه : يا أنيس كل منفرد بذكرك ، وجليس كل متوحد بحبك ، وقال ذو النون لراهب : يا راهب لقد تعجلت الوحدة ! فقال الراهب : يا فتى ، لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك ، الوحدة رأس العبادة ما آنستها الفكرة ، قال : يا راهب ، ما أقل ما يجد العبد في الوحدة ؟ قال : الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرهم ، قال : يا راهب ، متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله ؟ قال : إذا صفا الود وخلصت المعاملة ، قال : يا عبد الواحد بن زيد عبد الله ، متى يصفو الود ؟ قال : إذا اجتمع الهم فصار في الطاعة ، قلت : متى تخلص المعاملة ؟ قال : إذا اجتمع الهم فصار هما واحدا ، وقال بعض الحكماء : عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا ؟ وعجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك ؟ اللهم آنست الآنسين من أوليائك ، وخصصتهم بكفاية المتوكلين عليك ، تشاهدهم في ضمائرهم ، وتطلع عليهم في سرائرهم ، وستري عندك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، فإذا أوحشتني العزلة آنسني ذكرك ، وإذا كثرت علي الهموم رجعت إلى الاستجارة بك ، يا رب العالمين ، وقال : جئت من أنس الرحمن ، وكما قال بعض الحكماء : لو أن معي أنسا لتوحشت . إبراهيم بن أدهم
قيل : رحمك الله ، فما علامة صحة الأنس بالله ؟ قال : ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم ، واختيار القلب عذوبة الذكر ، قيل : رحمك الله ، فما علامته في ظاهره ؟ قال : منفرد في جماعة ، ومستجمع في خلوة ، وغريب في حضر ، وحاضر في سفر ، وشاهد في غيبة ، وغائب في حضور ، قيل : اشرح عن وصف هذا ، ما معنى : منفرد في جماعة ، ومستجمع في خلوة ؟ قال : منفرد بالذكر مشغول بالفكر ، لما استولى على القلب والهم من الشغل ، وطيب عذوبة الذكر وحلاوته ، وهو منفرد فيما هو فيه عن الجماعة ، وهو شاهد معهم ببدنه ، كما روي عن ، في حديث علي بن أبي طالب كميل بن زياد ، فقال : " هجم بهم العلم عن حقيقة الأمر ، فباشروا [ ص: 109 ] روح اليقين فاستلانوا ما استوعده المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان قلوبها معلقة بالمحل الأعلى ، وبأعلى العلى عند الملك العالي ، " فهذه صفة المنفرد في جماعة ، قيل : فما المستجمع في خلوة ؟ قال : مستجمع له بهمة ، قد جمع الهموم فصيرها هما واحدا في قلبه ، فاستجمعت له الهموم في مشاهدة الاعتبار وحسن الفكر في نفاذ القدرة ، فهو مستجمع لله بعقله وقلبه وهمه ووهمه كله ، وكل جوارحه مستجمعة منتصبة لدوام الذكر إلى وجود لحوق البصيرة ، وعوض الفطنة ، وسعة المعونة ، وليس شيء منه متفرقا ولا وهم معطلا ، وهذه صفة المستجمع في انفراده ، قيل : فما معنى : غائب في حضور ؟ قال : غائب بوهمه ، حاضر بقلبه ، فمعنى غائب أي غائب عن أبصار الناظرين ، حاضر بقلبه في مراعاة العارفين " .
أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت ، يقول : سمعت الجنيد بن محمد الحارث بن أسد ، يقول : " فيما بين الإيمان والكفر ، وفيما بين الصدق والكذب ، وبين التوحيد والشرك ، قال : وسمعت المحاسبة والموازنة في أربعة مواطن الحارث ، يقول : ترك الإصرار ، والذي يبعثه على ترك الإصرار ملازمة الخوف ، وقال الذي يبعث العبد على التوبة الحارث : أن لا ترى لنفسك ملكا ، وتعلم أنك لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا ، والتسليم هو الثبوت عند نزول البلاء من غير تغير منه ظاهرا وباطنا ، العبودية هو الطمع في فضل الله ورحمته ، وأقهر الناس لنفسه من رضي بالمقدور ، وأكمل العاقلين من أقر بالعجز أنه لا يبلغ كنه معرفته ، والخلق كلهم معذورون في العقل مأخوذون في الحكم ، ولكل شيء جوهر ، وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، والعمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب أشرف من العمل بالجوارح " . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قد أتينا على طرف من كلام والرجاء الحارث بن أسد مجتزيا من فنون تصانيفه وأنواع أقواله وأحواله بما ذكرنا ؛ إذ هو البحر العميق ، ورواياته عن المحدثين المشهورين في تصانيفه مدونة اقتصرنا من رواياته على ما : [ ص: 110 ] .
حدثناه محمد بن عبد الله بن سعيد ، ثنا أحمد بن القاسم الفرائضي ، ثنا ، ثنا الحارث بن أسد المحاسبي ، أنبأنا يزيد بن هارون شعبة ، عن القاسم ، عن عطاء ، عن ، عن أم الدرداء ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي الدرداء ما يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن " القاسم هو محمد بن أبي بزة .
حدثناه ، ثنا أبو بكر بن خلاد محمد بن غالب تمتام ، ثنا عفان ، ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة به ، وحدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، ثنا الحارث بن أسد ، ثنا محمد بن كثير الكوفي ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن أسود ، عن أبيه ، عن ، قال : " عبد الله بن مسعود ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر المشركين ، فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما فرغ صلاهن الأول فالأول " .