(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا )
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=32423_31931أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ، ولقائل أن يقول : كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته ، حتى يكون إيمانهم استدلاليا ، فلما أمرهم بذلك الإيمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالإيمان على سبيل التقليد .
والجواب عنه : أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب ، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة ، ألا ترى أنه قال في الآية الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=44ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) [ النساء : 44 ] ولم يقل : ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة ، فلما قال في هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47ياأيها الذين أوتوا الكتاب ) علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ؛ ولهذا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مصدقا لما معكم ) أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد ، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان
بمحمد - عليه الصلاة والسلام - جزما ، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك .
المسألة الثانية : الطمس : المحو ، تقول العرب في وصف المفازة : إنها طامسة الأعلام ، وطمس الطريق وطمس إذا درس ، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله ، وطمست الريح الأثر إذا محته ، وطمست الكتاب محوته ، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين :
أحدهما : حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه .
والثاني : حمل اللفظ على مجازه .
أما القول الأول : فهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=34080المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها ، فإن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس ، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ، ومعنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فنردها على أدبارها ) رد الوجوه إلى ناحية القفا ، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة ، فإن هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ، ومما يقرره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=10وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) [ الانشقاق : 10 ] فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب
[ ص: 98 ] من وراء ظهورهم ؛ لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان .
فأما القول الثاني : فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، ثم ذكروا فيه وجوها :
الأول : قال
الحسن : المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها ، أي على ضلالتها ، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) [ الأنفال : 24 ] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات ، فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه ، كما قال تعالى في صفتهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ناكسو رءوسهم ) [ السجدة : 12 ] .
الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير ، وبالوجوه : رؤساؤهم ووجهاؤهم ، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإدبار والمذلة .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16327عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق
اليهود ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء
قريظة والنضير إلى
الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى
أذرعات وأريحاء من أرض
الشام ، كما جاءوا منها بدءا ، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين :
أحدهما : تقبيح صورتهم يقال : طمس الله صورته كقوله : قبح الله وجهه .
والثاني : إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها .
فإن قيل : إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني ، فلا إشكال البتة ، وإن فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره ، فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه ، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أو نلعنهم ) وظاهره ليس هو المسخ .
الثاني : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47آمنوا ) تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم ، فلزم أن يكون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47من قبل أن نطمس وجوها ) واقعا في الآخرة ، فصار التقدير : آمنوا من قبل أن يجيء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت .
الثالث : أنا قد بينا أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47ياأيها الذين أوتوا الكتاب ) خطاب مع جميع علمائهم ، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالإيمان ، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه ، ففات المشروط بفوات الشرط ، ويقال :
لما نزلت هذه الآية أتى nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي .
الرابع : أنه تعالى لم يقل : من قبل أن نطمس وجوهكم ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47من قبل أن نطمس وجوها ) وعندنا أنه لا بد من طمس في
اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة ، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيانهم ، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أو نلعنهم ) فذكرهم على سبيل المغايبة ، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب ، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا )
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=32423_31931أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنْوَاعَ مَكْرِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَقَرَنَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى التَّرْكِ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُهُمُ اسْتِدْلَالِيًّا ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ ، وَهَذَا صِفَةُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ التَّوْرَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=44أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ) [ النِّسَاءِ : 44 ] وَلَمْ يَقُلْ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ التَّوْرَاةِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَالِمًا بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) أَيْ مُصَدِّقًا لِلْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ مَحْضَ الْعِنَادِ ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِيمَانِ
بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَزْمًا ، وَأَنْ يَقْرِنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الطَّمْسُ : الْمَحْوُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي وَصْفِ الْمَفَازَةِ : إِنَّهَا طَامِسَةُ الْأَعْلَامِ ، وَطَمُسَ الطَّرِيقُ وَطُمِسَ إِذَا دَرَسَ ، وَقَدْ طَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ إِذَا أَزَالَهُ وَأَبْطَلَهُ ، وَطَمَسَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا مَحَتْهُ ، وَطَمَسْتُ الْكِتَابَ مَحَوْتُهُ ، وَذَكَرُوا فِي الطَّمْسِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ طَمْسُ الْوُجُوهِ .
وَالثَّانِي : حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ .
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34080الْمُرَادَ مِنْ طَمْسِ الْوُجُوهِ مَحْوُ تَخْطِيطِ صُوَرِهَا ، فَإِنَّ الْوَجْهَ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِمَا فِيهِ الْحَوَاسُّ ، فَإِذَا أُزِيلَتْ وَمُحِيَتْ كَانَ ذَلِكَ طَمْسًا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) رَدُّ الْوُجُوهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْقَفَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمُثْلَةِ وَالْفَضِيحَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ الْغَمُّ وَالْحَسْرَةُ ، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا سَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ ، وَمِمَّا يُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=10وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ) [ الِانْشِقَاقِ : 10 ] فَإِنَّهُ إِذَا رُدَّتِ الْوُجُوهُ إِلَى الْقَفَا أُوتُوا الْكِتَابَ
[ ص: 98 ] مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ ؛ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ الْعُيُونُ وَالْأَفْوَاهُ الَّتِي بِهَا يُدْرَكُ الْكِتَابُ وَيُقْرَأُ بِاللِّسَانِ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ طَمْسِ الْوُجُوهِ مَجَازُهُ ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : قَالَ
الْحَسَنُ : الْمُرَادُ نَطْمِسُهَا عَنِ الْهُدَى فَنَرُدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ، أَيْ عَلَى ضَلَالَتِهَا ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ إِلْقَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْخِذْلَانِ وَظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) [ الْأَنْفَالِ : 24 ] تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ أَلِفَ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ ، ثُمَّ عِنْدَ الْفِكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ كَأَنَّهُ يُسَافِرُ مِنْ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ ، فَقُدَّامُهُ عَالَمُ الْمَعْقُولَاتِ ، وَوَرَاءَهُ عَالَمُ الْمَحْسُوسَاتِ ، فَالْمَخْذُولُ هُوَ الَّذِي يُرَدُّ مِنْ قُدَّامِهِ إِلَى خَلْفِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ ) [ السَّجْدَةِ : 12 ] .
الثَّانِي : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّمْسِ الْقَلْبَ وَالتَّغْيِيرَ ، وَبِالْوُجُوهِ : رُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجَهَاؤُهُمْ ، وَالْمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ نُغَيِّرَ أَحْوَالَ وُجَهَائِهِمْ فَنَسْلُبُ مِنْهُمُ الْإِقْبَالَ وَالْوَجَاهَةَ وَنَكْسُوهُمُ الصَّغَارَ وَالْإِدْبَارَ وَالْمَذَلَّةَ .
الثَّالِثُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16327عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : هَذَا الْوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ
الْيَهُودَ وَمَضَى ، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى
الشَّامِ ، فَرَدَّ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى
أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا بَدْءًا ، وَطَمْسُ الْوُجُوهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ يُقَالُ : طَمَسَ اللَّهُ صُورَتَهُ كَقَوْلِهِ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَهُ .
وَالثَّانِي : إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ تَعَالَى هَدَّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَلَا إِشْكَالَ الْبَتَّةَ ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ الْوَعِيدَ هُوَ الطَّمْسُ بِعَيْنِهِ ، بَلْ جَعَلَ الْوَعِيدَ إِمَّا الطَّمْسُ أَوِ اللَّعْنُ فَإِنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) وَقَدْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَهُوَ اللَّعْنُ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) وَظَاهِرُهُ لَيْسَ هُوَ الْمَسْخُ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47آمِنُوا ) تَكْلِيفٌ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ) وَاقِعًا فِي الْآخِرَةِ ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ : آمِنُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجِيءَ وَقْتٌ نَطْمِسُ فِيهِ وُجُوهَكُمْ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
الثَّالِثُ : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) خِطَابٌ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ ، فَكَانَ التَّهْدِيدُ بِهَذَا الطَّمْسِ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ لِأَنَّهُ آمَنَ
nindex.php?page=showalam&ids=106عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَفَاتَ الْمَشْرُوطُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ ، وَيُقَالُ :
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتَى nindex.php?page=showalam&ids=106عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَأَسْلَمَ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَرَى أَنْ لَا أَصِلَ إِلَيْكَ حَتَّى يَتَحَوَّلَ وَجْهِي فِي قَفَايَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَكُمْ ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ) وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَمْسٍ فِي
الْيَهُودِ أَوْ مَسْخٍ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ طَمْسَ وُجُوهِهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ ، بَلْ طَمْسَ وُجُوهِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) فَذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ لَذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ .