الباب الثاني 
في فضائل هذه السورة ، وفيه مسائل 
المسألة الأولى : ذكروا في كيفية نزول هذه السورة  ثلاثة أقوال : 
الأول : أنها مكية ، روى الثعلبي  بإسناده عن  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة  من كنز تحت العرش ، ثم قال الثعلبي    : وعليه أكثر العلماء ، وروى أيضا بإسناده عن  عمرو بن شرحبيل  أنه قال : أول ما نزل من القرآن   [ ص: 148 ]   ( الحمد لله رب العالمين    ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى  خديجة  فقال : لقد خشيت أن يكون خالطني شيء ، فقالت : وما ذاك ؟ قال : إني إذا خلوت سمعت النداء بـ " اقرأ " ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل  ، وسأله عن تلك الواقعة ، فقال له ورقة    : إذا أتاك النداء فاثبت له ، فأتاه جبريل  عليه السلام وقال له : قل : ( بسم الله الرحمن الرحيم  الحمد لله رب العالمين    )   . وبإسناده عن أبي صالح  عن  ابن عباس  قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت قريش    : دق الله فاك   . 
والقول الثاني : أنها نزلت بالمدينة  ، روى الثعلبي  بإسناده عن  مجاهد  أنه قال : فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة  ، قال  الحسين بن الفضل    : لكل عالم هفوة وهذه هفوة  مجاهد  ؛ لأن العلماء على خلافه ، ويدل عليه وجهان : 
الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ، ومنها : قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني    ) ، وهي : فاتحة الكتاب ، وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم ، الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام بمكة  بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب . 
القول الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت بمكة  مرة ، وبالمدينة  مرة أخرى ، فهي مكية مدنية ؛ ولهذا السبب سماها الله بالمثاني ؛ لأنه ثنى إنزالها ، وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها . 
المسألة الثانية : في بيان فضلها ، عن  أبي سعيد الخدري  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فاتحة الكتاب شفاء من السم  ، وعن  حذيفة بن اليمان  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا ، فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب ( الحمد لله رب العالمين    ) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة ، وعن الحسين  قال : أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء ، فأودع علوم المائة في الأربعة ، وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان ، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل ، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة ، فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان   . 
قلت : والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات ، وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة ، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها ، لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية . 
المسألة الثالثة : قالوا : هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف ، وهي الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب ، فالثاء تدل على الويل والثبور ، قال تعالى : ( لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا    ) [ الفرقان : 14 ] والجيم أول حروف اسم جهنم ، قال تعالى : ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين    ) [ الحجر : 43 ] وقال تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس    ) [ الأعراف : 179 ] وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه    ) [ التحريم : 8 ] وقال تعالى : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين    ) [ النحل : 27 ] وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق ، قال تعالى : ( لهم فيها زفير وشهيق    ) [ هود : 106 ] وأيضا الزاي تدل على الزقوم ، قال تعالى : ( إن شجرة الزقوم  طعام الأثيم    ) [ الدخان : 43 ] والشين تدل على الشقاوة ، قال تعالى : ( فأما الذين شقوا ففي النار    ) [ هود : 106 ] وأسقط الظاء لقوله : ( انطلقوا إلى ظل ذي    )   [ ص: 149 ]   ( ثلاث شعب  لا ظليل ولا يغني من اللهب    ) [ المرسلات : 30 ، 31 ] وأيضا يدل على لظى ، قال تعالى : ( كلا إنها لظى  نزاعة للشوى    ) [ المعارج : 15 ] وأسقط الفاء ؛ لأنه يدل على الفراق ، قال تعالى : ( يومئذ يتفرقون    ) [ الروم : 14 ] وأيضا قال : ( لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى    ) [ طه : 61 ] . 
فإن قالوا : لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة ، فنقول : الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم : ( لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم    ) [ الحجر : 44 ] والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة ، وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب ، تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					