الباب الثالث
في
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28882_28892الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة ، وفيه مسائل
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله ) فكأن سائلا يقول : الحمد لله منبئ عن أمرين : أحدهما : وجود الإله ، والثاني : كونه مستحقا للحمد ، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين ، فأجاب عن السؤال الأول بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) وأجاب عن السؤال الثاني بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=3الرحمن الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مالك يوم الدين ) أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا جائز أن يقال : العلم بوجود الإله ضروري ؛ لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة ، فبقي أن يكون العلم نظريا ، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السماوات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره ، وموجود يوجده ، ومرب يربيه ، ومبق يبقيه ، فكان قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) إشارة إلى
nindex.php?page=treesubj&link=28659الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم .
ثم فيه لطائف : اللطيفة الأولى : أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه ، محتاج في وجوده إلى إيجاده ، وفي بقائه إلى إبقائه ، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] .
اللطيفة الثانية : أنه تعالى لم يقل : الحمد لله خالق العالمين ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها ، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا ؟ فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب ، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها ، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه ، أما
[ ص: 150 ] افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف ، فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه .
اللطيفة الثالثة : أن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28892_28883السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن ، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) تنبيه على أن كل موجود سواه ، فإنه دليل على إلهيته .
ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله ) فأولها : سورة الأنعام وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] واعلم أن المذكور هاهنا قسم من أقسام قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله ، والسماوات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله ، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة ، وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السماوات والأرض ؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين ، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى ، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه ، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة .
وثانيها : سورة الكهف ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=1الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف ، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات ، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط ، وقوله في أول سورة الفاتحة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين ، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة .
وثالثها : سورة سبأ ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=1الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [ سبأ : 1 ] فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له ، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له ، وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) .
ورابعها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) [ فاطر : 1 ] والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها ، والخلق هو التقدير ، والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها ، وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) .
ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسماوات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور ، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات ، وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات ، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) فهذا هو التنبيه على أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم .
الْبَابُ الثَّالِثُ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28882_28892الْأَسْرَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَفِيهِ مَسَائِلُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ ) فَكَأَنَّ سَائِلًا يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مُنْبِئٌ عَنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُودُ الْإِلَهِ ، وَالثَّانِي : كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ ؟ وَلَمَّا تَوَّجَّهَ هَذَانِ السُّؤَالَانِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ ، فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=3الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) أَمَّا تَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إِنْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ الشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ : الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ ضَرُورِيٌّ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَا نَعْرِفُ وُجُودَ الْإِلَهِ بِالضَّرُورَةِ ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ نَظَرِيًّا ، وَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ بِمَا فِيهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُحْتَاجٌ إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهُ ، وَمَوْجُودٍ يُوجِدُهُ ، وَمُرَبٍّ يُرَبِّيهِ ، وَمُبْقٍ يُبْقِيهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إِشَارَةً إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28659الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ .
ثُمَّ فِيهِ لَطَائِفُ : اللَّطِيفَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْعَالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ ، مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى إِيجَادِهِ ، وَفِي بَقَائِهِ إِلَى إِبْقَائِهِ ، فَكَانَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَكُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٌ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ بُرْهَانٌ بَاهِرٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ الْقَادِرِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [ الْإِسْرَاءِ : 44 ] .
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعَالَمِينَ ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمُوجِدِ وَالْمُحْدِثِ حَالَ حُدُوثِهَا ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا حَالَ بَقَائِهَا هَلْ تَبْقَى مُحْتَاجَةً إِلَى الْمُبْقِي أَمْ لَا ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : الشَّيْءُ حَالَ بَقَائِهِ يَسْتَغْنِي عَنِ السَّبَبِ ، وَالْمُرَبِّي هُوَ الْقَائِمُ بِإِبْقَاءِ الشَّيْءِ وَإِصْلَاحِ حَالِهِ حَالَ بَقَائِهِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ فِي حَالِ بَقَائِهَا ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ افْتِقَارَهَا إِلَى الْمُوجِدِ فِي حَالِ حُدُوثِهَا أَمْرٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ ، أَمَّا
[ ص: 150 ] افْتِقَارُهَا إِلَى الْمُبْقِي وَالْمُرَبِّي حَالَ بَقَائِهَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ ، فَخَصَّهُ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لَا فِي حَالِ حُدُوثِهِ وَلَا فِي حَالِ بَقَائِهِ .
اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28892_28883السُّورَةَ مُسَمَّاةٌ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا كَالْأَصْلِ وَالْمَعْدِنِ ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا كَالْجَدَاوِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْهُ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ سُوَرًا أَرْبَعَةً بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ ) فَأَوَّلُهَا : سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) [ الْأَنْعَامِ : 1 ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لِأَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ مَا سِوَى اللَّهِ ، فَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَأَنَّهُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ، وَأَيْضًا فَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؛ وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ كَوْنُهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْتَاجٌ حَالَ بَقَائِهِ إِلَى إِبْقَاءِ اللَّهِ كَانَ الْقَوْلُ بِاحْتِيَاجِهِ حَالَ حُدُوثِهِ إِلَى الْمُحْدِثِ أَوْلَى ، أَمَّا لَا يَلْزَمُ مِنَ احْتِيَاجِهِ إِلَى الْمُحْدِثِ حَالَ حُدُوثِهِ احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمُبْقِي حَالَ بَقَائِهِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ يَجْرِي مَجْرَى قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ .
وَثَانِيهَا : سُورَةُ الْكَهْفِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْبِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْمَعَارِفِ ، فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ ، فَكَانَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى التَّرْبِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَقَطْ ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْبِيَةِ الْعَامَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ الْعَالَمِينَ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّرْبِيَةُ الرُّوحَانِيَّةُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالتَّرْبِيَةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ، فَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ .
وَثَالِثُهَا : سُورَةُ سَبَأٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) [ سَبَأٍ : 1 ] فَبَيَّنَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَهُ ، وَبَيَّنَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْحَاصِلَةَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ ، وَهَذَا أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
وَرَابِعُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [ فَاطِرٍ : 1 ] وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَوْنُهُ خَالِقًا لَهَا ، وَالْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَوْنُهُ فَاطِرًا لَهَا وَمُحْدِثًا لِذَوَاتِهَا ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَوْنَهُ خَالِقًا لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَاعِلًا لِلظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ، أَمَّا فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ كَوْنَهُ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَاعِلًا الْمَلَائِكَةَ رُسُلًا ، فَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ذَكَرَ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعْلَ الْأَنْوَارِ وَالظُّلُمَاتِ ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ كَوْنِهِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعْلَ الرُّوحَانِيَّاتِ ، وَهَذِهِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَلَطَائِفُ عَالِيَةٌ إِلَّا أَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَنْوَاعِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يَجْرِي مَجْرَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ .