واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدر بأوقات مخصوصة  ، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات ، وهي خمسة : 
أحدها : قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى    ) [البقرة : 238] . فقوله : ( الصلوات ) يدل على وجوب صلوات ثلاثة ، وقوله ( والصلاة الوسطى    ) يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار ، فلا بد وأن تكون زائدة على الثلاثة ، ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة ، وإلا لم يحصل فيها وسطى ، فلا بد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى ، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر  ، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة ، فحينئذ لا تحصل الوسطى ، فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات  ، إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها . 
وثانيها : قوله   [ ص: 24 ] تعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر    ) [الإسراء : 78] . فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر ، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح ، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا ، وللمغرب والعشاء وقتا واحدا . 
وثالثها : قوله سبحانه : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون    ) [الروم : 17] . والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار ، وهما المغرب والصبح ، ثم قال : ( وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون    ) [الروم : 18] . فقوله : ( وعشيا ) المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء ، وقوله : ( وحين تظهرون    ) المراد الصلاة الواقعة في محض النهار ، وهي صلاة الظهر ، كما قدم في قوله : ( حين تمسون وحين تصبحون    ) [الروم : 17] صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فكذلك قدم في قوله : ( وعشيا وحين تظهرون    ) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية ، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله : ( والعصر ) [ العصر : 1 ] . تشريفا لها بالإفراد بالذكر . 
ورابعها : قوله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل    ) [هود : 114] . فقوله : ( طرفي النهار    ) يفيد وجوب صلاة الصبح ، ووجوب صلاة العصر ؛ لأنهما كالواقعتين على الطرفين ، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول ، وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني . 
وقوله : ( وزلفا من الليل    ) يفيد وجوب المغرب والعشاء ، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال : لأن الزلف جمع ، وأقله ثلاثة ، فلا بد وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله : ( وزلفا من الليل    ) . 
وخامسها : قوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح    ) [طـه : 130 ] . فقوله : ( قبل طلوع الشمس وقبل غروبها    ) [طه : 130] إشارة إلى الصبح والعصر ، وهو كقوله : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل    ) ، وقوله : ( ومن آناء الليل    ) إشارة إلى المغرب والعشاء ، وهو كقوله : ( وزلفا من الليل    ) ، وكما احتجوا بقوله : ( وزلفا من الليل    ) فكذلك احتجوا عليه بقوله : ( ومن آناء الليل    ) ؛ لأن قوله : ( آناء الليل ) جمع وأقله ثلاثة ، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس    . 
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول ، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة : 
أولها : مرتبة الحدوث والدخول في الوجود ، وهو كما يولد الإنسان ، ويبقى في النشوء والنماء إلى مدة معلومة ، وهذه المدة تسمى سن النشوء والنماء . 
والمرتبة الثانية : مدة الوقوف ، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان ، وهذه المدة تسمى سن الشباب . 
والمرتبة الثالثة : مدة الكهولة ، وهو أن يظهر في الإنسان نقصان خفي ، وهذه المدة تسمى سن الكهولة . 
والمرتبة الرابعة : مدة الشيخوخة ، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك ، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة . 
المرتبة الخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدة ، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات ، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس ؛ وذلك لأنها   [ ص: 25 ] حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ، ويقوى نورها ، ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء ، فتقف هناك ساعة ، ثم تنحدر ويظهر فيها نقصانات خفية إلى وقت العصر ، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ، ثم تنمحي تلك الآثار ، وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم ، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة ، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر ؛ شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة ، وحصول النور ، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت ، وحصول اليقظة التي هي كالحياة ، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ، ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر ؛ تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد ، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو ، وآخذة في سن الكهولة ، وهو النقصان الخفي ، ثم لما انقضت مدة الكهولة ، ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر . 
ونعم ما قال  الشافعي    -رحمه الله- : إن أول العصر  هو أن يصير ظل كل شيء مثليه ؛ وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول  الشافعي    -رحمه الله- ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ، ثم إنه في زمان لطيف يصير ظله مثليه ، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان ، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر ، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء ، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية ، والله أعلم بأسرار أفعاله . 
				
						
						
