( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون    ) . 
قوله تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام    )  في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها ، بين تعالى أن ذلك باطل فقال : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام    ) . 
المسألة الثانية : اعلم أنه يقال : فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل ، وبعضها أعم من بعض ، وأكثرها عموما فعل ؛ لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب ، أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر ، وأما إنه واقع على أعمال القلوب ، فدليل عليه قوله تعالى : ( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا    ) إلى قوله : ( كذلك فعل الذين من قبلهم    ) [النحل : 33] وأما (عمل) فإنه أخص من فعل ؛ لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح ، ولا يقع على الهم والعزم والقصد ، والدليل عليه قوله عليه السلام : " نية المؤمن خير من عمله   " جعل النية خيرا من العمل ، فلو كانت النية عملا ، لزم كون النية خيرا من نفسها ، وأما "جعل " فله وجوه : 
أحدها : الحكم ، ومنه قوله : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا    ) [الزخرف : 19] . 
وثانيها : الخلق ، ومنه قوله : ( وجعل الظلمات والنور    ) [الأنعام : 1] . وثالثها : بمعنى التصيير ، ومنه قوله : ( إنا )   [ ص: 91 ]   ( جعلناه قرآنا عربيا    ) [الزخرف : 3] . 
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( ما جعل الله    ) أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به . 
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أشياء : 
أولها : البحيرة ، وهي فعيلة من البحر وهو الشق ، يقال : بحر ناقته : إذا شق أذنها ، وهي بمعنى المفعول ، قال أبو عبيدة  والزجاج    : الناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسيبوها لآلهتهم ، ولا يجز لها وبر ، ولا يحمل على ظهرها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، ولا ينتفع بها ، وإذا لقيها المعيى لم يركبها تحريجا   . 
وأما السائبة : فهي فاعلة من ساب : إذا جرى على وجه الأرض ، يقال : ساب الماء وسابت الحية ، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت ، وهي المسيبة ، كعيشة راضية ، بمعنى مرضية ، وذكروا فيها وجوها : 
أحدها : ما ذكره أبو عبيدة  ، وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيرا ، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها   . 
وثانيها : قال الفراء    : إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث ، سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر ، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف . 
وثالثها : قال  ابن عباس    : السائبة هي التي تسيب للأصنام ؛ أي تعتق لها ، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء ، فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل   . 
ورابعها : السائبة هو العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث . 
وأما الوصيلة ، فقال المفسرون : إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها . وأما الحام فيقال : حماه يحميه : إذا حفظه ، وفيه وجوه : 
أحدها : الفحل إذا ركب ولد ولده قيل : حمى ظهره ؛ أي حفظه عن الركوب ، فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت ، فحينئذ تأكله الرجال والنساء . 
وثانيها : إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا : حمت ظهرها ، حكاه أبو مسلم    . 
وثالثها : الحام هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى ، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها ، وهو قول السدي    . 
فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام  ؟ 
قلنا : الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته ، فإذا تمرد عن طاعة الله تعالى عوقب بضرب الرق عليه ، فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى ، فكان ذلك عبادة مستحسنة ، وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين ، فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة ، فظهر الفرق ، وأيضا الإنسان إذا كان عبدا فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه ، وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة ، فظهر الفرق . 
ثم قال تعالى : ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون    ) . 
 [ ص: 92 ] قال المفسرون : إن عمرو بن لحي الخزاعي  كان قد ملك مكة  ، وكان أول من غير دين إسماعيل  ، فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام    . 
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه   " والقصب المعى وجمعه الأقصاب ، ويروى يجر قصبه في النار . 
قال  ابن عباس    : قوله : ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب    ) يريد عمرو بن لحي  وأصحابه ، يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيل في تحريمهم هذه الأنعام ، والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب ، فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون ، فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء . 
				
						
						
