[ ص: 3 ] ( ) سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون
بسم الله الرحمن الرحيم
( الم )
( الم ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى :
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة ، لأن الضاد مثلا لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب " فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالإمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة ، فكانت لا محالة أسماء . فإن قيل قد روى عن أبو عيسى الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عبد الله بن مسعود " الحديث ، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا : سماه حرفا مجازا لكونه اسما للحرف ، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور . من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ، لكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف
فروع :
الأول : أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة ، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف مفردة ، والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى ، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا .
الثاني : حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد ، فيقال ألف لام ميم ، كما تقول واحد اثنان ثلاثة ، فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب كقولك : هذه ألف وكتبت ألفا ونظرت إلى ألف ، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب ، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى ، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى ، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات .
الثالث : هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه ، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين .
المسألة الثانية : للناس في الم ) وما يجري مجراه من الفواتح قولان : قوله تعالى : (
أحدهما : أن هذا [ ص: 4 ] علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به . وقال رضي الله عنه : لله في كل كتاب سر ، وسره في القرآن أوائل السور . وقال أبو بكر الصديق علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . وقال بعض العارفين : العلم بمنزلة البحر ، فأجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية ، فلو أجري إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده ، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده ، وهو المراد من قوله تعالى : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) [ الرعد : 17 ] فبحور العلم عند الله تعالى ، فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء ، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغارا على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم . وعلى هذا ما روي في الخبر " للعلماء سر ، وللخلفاء سر ، وللأنبياء سر ، وللملائكة سر ، ولله من بعد ذلك كله سر ، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين ، وبادوا بائرين " والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية ، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش ، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة ، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه ، وكذلك علماء الباطن - وهم الحكماء - زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر . وسئل عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه . وروى الشعبي أبو ظبيان عن قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وقال ابن عباس : هو من المتشابه . الحسين بن الفضل
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول ، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق ، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول .
أما الآيات فأربعة عشر :
أحدها : قوله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ] أمرهم بالتدبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه .
وثانيها : قوله : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ النساء : 82 ] فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق ؟ .
وثالثها : قوله : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [ الشعراء : 192 - 195 ] فلو لم يكن مفهوما بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلم منذرا به ، وأيضا قوله : ( بلسان عربي مبين ) يدل على أنه نازل بلغة العرب ، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوما .
ورابعها : قوله : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه .
وخامسها : قوله : ( تبيانا لكل شيء ) [ النحل : 89 ] وقوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) .
وسادسها : قوله : ( هدى للناس ) [ البقرة : 185 ] ، ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] وغير المعلوم لا يكون هدى .
وسابعها : قوله : ( حكمة بالغة ) [ القمر : 5 ] وقوله : ( وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس : 57 ] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم .
وثامنها : قوله : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [ المائدة : 15 ] .
وتاسعها : قوله : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) [ العنكبوت : 51 ] وكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم ؟ .
وعاشرها : قوله تعالى : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ) [ إبراهيم : 52 ] فكيف يكون بلاغا ، وكيف [ ص: 5 ] يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم ؟ وقال في آخر الآية : ( وليذكر أولو الألباب ) [ إبراهيم : 52 ] وإنما يكون كذلك لو كان معلوما .
الحادي عشر : قوله : ( قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) [ النساء : 174 ] فكيف يكون برهانا ونورا مبينا مع أنه غير معلوم ؟ .
الثاني عشر : قوله : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) [ طه : 123 ، 124 ] فكيف يمكن اتباعه والإعراض عنه غير معلوم ؟ .
الثالث عشر : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] فكيف يكون هاديا مع أنه غير معلوم ؟ .
الرابع عشر : قوله تعالى : ( آمن الرسول ) إلى قوله : ( سمعنا وأطعنا ) [ البقرة : 285 ] والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوما .
وأما الأخبار : فقوله عليه السلام : " " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم ؟ . وعن إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : عليكم بكتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، ومن تركه من جبار قصمه الله ، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم والصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم .
أما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية ، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا .
وثانيها : أن المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة به عبثا وسفها ، وأنه لا يليق بالحكيم .
وثالثها : أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدي به ، فهذا مجموع كلام المتكلمين ، واحتج مخالفوهم بالآية ، والخبر ، والمعقول .
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم ، لقوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) [ آل عمران : 7 ] والوقف ههنا واجب لوجوه :
أحدها : أن قوله تعالى : ( والراسخون في العلم ) [ آل عمران : 7 ] لو كان معطوفا على قوله : ( إلا الله ) لبقي ( يقولون آمنا به ) منقطعا عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد ، لا يقال إنه حال ، لأنا نقول حينئذ يرجع إلى كل ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا آمنا به كل من عند ربنا وهذا كفر .
وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح .
وثالثها : أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما ، لكن قد جعله الله تعالى ذما حيث قال : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) [ آل عمران : 7 ] .
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبرا يدل على قولنا ، وروي أنه عليه السلام قال : " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله ، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله " ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقا ؛ لقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان . منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة [ ص: 6 ] بعقولنا : كالصلاة والزكاة والصوم ؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق ، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير ، والصوم سعي في كسر الشهوة .
ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه : كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة ، والرمل ، والاضطباع ، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني ؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه ، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم ؛ لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضا أن يكون الأمر كذلك في الأقوال ؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارة بما لا نقف على معناه ، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر ، بل فيه فائدة أخرى ، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب ، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتا إليه أبدا ، ومتفكرا فيه أبدا ، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه ، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة له ، فيتعبده بذلك تحصيلا لهذه المصلحة ، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب .
القول الثاني : قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوها :
الأول : أنها أسماء السور ، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل ، قال وسيبويه القفال : وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء ، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس : صاد ، وللنقد عين ، وللسحاب غين ، وقالوا : جبل قاف ، وسموا الحوت نونا .
الثاني : أنها أسماء الله تعالى ، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول : " يا كهيعص ، يا حم عسق " .
الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تعالى ، قال : قوله : ( الر ، حم ، ن ) مجموعها هو اسم الرحمن ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي . سعيد بن جبير
الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة .
الخامس : أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته ، قال رضي الله عنه ما في ( الم ) : الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنه لطيف ، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان ، وقال في : ( ابن عباس كهيعص ) إنه ثناء من الله تعالى على نفسه ، والكاف يدل على كونه كافيا ، والهاء يدل على كونه هاديا ، والعين يدل على العالم ، والصاد يدل على الصادق ، وذكر ابن جرير عن أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنه يجير ، والعين على العزيز والعدل . والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك . ابن عباس
السادس : بعضها يدل على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصفات . قال في ( الم) أنا الله أعلم ، وفي ( ابن عباس المص ) أنا الله أفصل ، وفي ( الر ) أنا الله أرى ، وهذا رواية أبي صالح عنه . وسعيد بن جبير
السابع : كل واحد منها يدل على صفات الأفعال ، فالألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده . قاله ، وقال محمد بن كعب القرظي : ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه . الربيع بن أنس
الثامن : بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله ، فقال الضحاك : الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى [ ص: 7 ] محمد صلى الله عليه وسلم .
التاسع : كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال ، فالألف معناه ألف الله محمدا فبعثه نبيا ، واللام أي لامه الجاحدون ، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق . وقال بعض الصوفية : الألف معناه أنا ، واللام معناه لي ، والميم معناه مني .
العاشر : ما قاله واختاره جمع عظيم من المحققين - إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجا على الكفار ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه ، أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر . المبرد
الحادي عشر : قال عبد العزيز بن يحيى : إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال : اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولا مفردة ثم يتعلمون المركبات .
الثاني عشر : قول ابن روق وقطرب : إن الكفار لما قالوا : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ؛ فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم .
الثالث عشر : قول إن كل حرف منها في مدة أقوام ، وآجال آخرين ، قال أبي العالية رضي الله عنه : ابن عباس مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو سورة البقرة ( الم ذلك الكتاب ) ، ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن " الم " وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم كذلك نزلت " ، فقال حيي : إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيي فهل غير هذا ؟ فقال : نعم ( المص ) ، فقال حيي : هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة ، فهل غير هذا ، قال : نعم ( الر ) ، فقال حيي هذا أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة ، فهل غير هذا ؟ فقال : نعم ( المر ) ، قال حيي : فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ . فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقا فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله ، فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله ، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير ؟ فذلك قوله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) [آل عمران : 7] .
الرابع عشر : هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر ، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب : إن العرب إذا استأنفت كلاما فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه ، فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد .
الخامس عشر : روى ابن الجوزي عن أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عز وجل به على نفسه . ابن عباس
السادس عشر : قال الأخفش : إن المنزلة بالألسنة المختلفة ، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، وأصول كلام الأمم ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد هو الكل ، كما تقول قرأت [ ص: 8 ] الحمد ، وتريد السورة بالكلية ، فكأنه تعالى قال : أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ . الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه
السابع عشر : أن التكلم بهذه الحروف وإن كان معتادا لكل أحد إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة ، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخبارا عن الغيب ؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه .
الثامن عشر : قال أبو بكر التبريزي : إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيها على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف ، فيجب أن لا يكون قديما .
التاسع عشر : قال القاضي الماوردي : المراد من " الم " أنه ألم بكم ذلك الكتاب ، أي نزل عليكم ، والإلمام الزيارة ، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر .
العشرون : الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة في أول الأمر ، وهو رعاية الشريعة ، قال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [فصلت : 30] واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات ، وهو رعاية الطريقة ، قال الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت : 69] ، والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها ، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية ، وهو مقام الحقيقة ، قال تعالى : ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) [الأنعام : 91] .
الحادي والعشرون : الألف من أقصى الحلق ، وهو أول مخارج الحروف ، واللام من طرف اللسان ، وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة ، وهو آخر المخارج ، فهذه إشارة إلى أنه لا بد وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى ، على ما قال : ( ففروا إلى الله ) [الذاريات : 50] .
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور ، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة ، أو تكون مفهومة ، والأول باطل ، أما أولا فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج ، وأما ثانيا فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم .
وأما القسم الثاني فنقول : إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب ، أو أسماء المعاني ، والثاني باطل ؛ لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون ، فيمتنع حملها عليها ؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلا في لغة العرب ؛ ولأن المفسرين ذكروا وجوها مختلفة ، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي ، فإما أن يحمل على الكل ، وهو متعذر بالإجماع ؛ لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة ، وليس فيهم من حملها على الكل ، أو لا يحمل على شيء منها ، وهو الباقي ، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الألفاظ غير معلومة ، قوله : " لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج " قلنا : ولم لا يجوز ذلك ؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة ، والسجيل والإستبرق فارسيان ، قوله : " وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان " قلنا : لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات ، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبيانا فكذا ههنا ، سلمنا أنها مفهومة ، لكن قولك : " إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني " إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع ، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى ، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء [ ص: 9 ] على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا ، فحينئذ يهجم القرآن على أسماعهم ، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما ، فلم لا يجوز أن يقال : إنها من أسماء المعاني ؟ قوله : " إنها في اللغة غير موضوعة لشيء البتة " ، قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء ، ولكن لم لا يجوز أن يقال : إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معينا ؟ وبيانه من وجوه :
( أحدها ) : أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم : إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها ، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله .
( وثانيها ) : أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس .
( وثالثها ) : أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة ، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء .
( ورابعها ) : أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب ، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيها على أسمائه تعالى .
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه :
( أحدها ) : أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في ( الم ) و ( حم ) فالاشتباه حاصل فيها ، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه .
فإن قيل : يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد ؛ فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية . قلنا : قولنا ( الم ) لا يفيد معنى البتة ، فلو جعلناه علما لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علما ، بخلاف التسمية بمحمد ، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين ، وهو التبرك به لكونه اسما للرسول ، ولكونه دالا على صفة من صفات الشرف ، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين ، بخلاف قولنا : ( الم ) فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين ، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثا محضا .
( وثانيها ) : لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر ؛ لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب ، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة ، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوما بالتواتر وارتفع الخلاف فيه ، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور .
( وثالثها ) : أن القرآن نزل بلسان العرب ، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب ، وأنه غير جائز .
( ورابعها ) : أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء ، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء ، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران .
( وخامسها ) : هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها ، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة ، فلو جعلناها اسما للسورة لزم التقدم والتأخر معا ، وهو محال ، فإن قيل : مجموع قولنا : " صاد " اسم للحرف الأول منه ، فإذا جاز أن يكون المركب اسما لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسما لذلك المركب ؟ قلنا : الفرق ظاهر ؛ لأن المركب يتأخر عن المفرد ، والاسم يتأخر عن المسمى ، فلو جعلنا المركب اسما للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب على ذلك المفرد من وجهين ، وذلك غير مستحيل ، أما لو جعلنا المفرد اسما للمركب لزم من حيث إنه مفرد كونه متقدما ومن حيث إنه اسم كونه متأخرا ، وذلك محال .
( وسادسها ) : لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه ، ومعلوم أنه غير حاصل .
[ ص: 10 ] الجواب : " قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب " قلنا : عنه جوابان :
أحدهما : أن كل ذلك عربي ، لكنه موافق لسائر اللغات ، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين .
الثاني : أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولا في بلاد العرب ، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها ، فتكلموا بتلك الأسماء ، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضا .
قوله : " وجد أن " قلنا : كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل ، أو في الكتاب ، أو في السنة بيانه ، وحينئذ يخرج عن كونه غير مفيد ، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه . المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بيانا
وقوله : " لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب ؟ " قلنا : لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذا الغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض ، وهو بالإجماع باطل .
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا : " الم " غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني ، فلا يجوز استعمالها فيه ؛ لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب ، ولأنها متعارضة ، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض ؛ ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات ، وذلك مما لا سبيل إليه .
أما الجواب عن المعارضة الأولى : فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد - ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى - حكمة خفية .
وعن الثاني : أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام ، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر .
وعن الثالث : أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسما واحدا على طريقة " حضرموت " فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز ؛ فإن نص على جواز التسمية بالجملة ، والبيت من الشعر ، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم . سيبويه
وعن الرابع : أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم فكذا ههنا .
وعن الخامس : أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين ، ولفظ الاسم كذلك ، فيكون الاسم اسما لنفسه ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسما له .
وعن السادس : أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة ، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض . على أن القول الحق : أنه تعالى يفعل ما يشاء ، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة .
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب : من أن المشركين قال بعضهم لبعض : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئا ، والإنسان حريص على ما منع ، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه ؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ، ويوضح ذلك المشكل . فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه . والذي يؤكد هذا المذهب أمران :
أحدهما : أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور ، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا .
والثاني : أن [ ص: 11 ] العلماء قالوا : إن هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئا يقوي قوله وينصر مذهبه ، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات ، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئا من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى . أقصى ما في الباب أن يقال : لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي ، وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض ، وأيضا فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبيانا ، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي - وكان ذلك متضمنا لمثل هذه المصلحة - فإن ذلك يكون جائزا ؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال ، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة ، وقد يكون غيرها ، قوله : " إنه يكون هذيانا " قلنا : إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك ، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه ؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبيانا فذلك لا ينافي ما قلناه ؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم . الحكمة في إنزال المتشابهات
( فروع على القول بأنها أسماء السور ) :
الأول : هذه الأسماء على ضربين : أحدهما : يتأتى فيه الإعراب ، وهو إما أن يكون اسما مفردا " كصاد ، وقاف ، ونون " أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم ، وطس ويس ؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وأما " طسم " فهو وإن كان مركبا من ثلاثة أسماء فهو كدرابجرد ، وهو من باب ما لا ينصرف ، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث .
والثاني : ما لا يتأتى فيه الإعراب ، نحو كهيعص ، والمر ، إذا عرفت هذا فنقول : أما المفردة ففيها قراءتان :
إحداهما : قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح ، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو : اذكر ، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز مثله في حم وطس ويس لو قرئ به ، وحكى سيبويه أن بعضهم قرأ " يس " بفتح النون ؛ وأن يكون الفتح جرا ، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية ، فقد جاء عنهم : " الله لأفعلن " غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم " أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف " . السيرافي
وثانيتهما : قراءة بعضهم صاد بالكسر ، وسببه التحريك لالتقاء الساكنين . أما القسم الثاني - وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه - فهو يجب أن يكون محكيا ، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك : " دعني من تمرتان " .
الثاني : أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم : أربعة عشر سواء ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون ، في تسع وعشرين سورة .
الثالث : هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد ، فوردت " ص ق ن " على حرف ، و " طه وطس ويس وحم " على حرفين ، و " الم والر وطسم " على ثلاثة أحرف ، والمص والمر على أربعة أحرف ، و " كهعيص " و " حم عسق " على خمسة أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا .
[ ص: 12 ] الرابع : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا ؟ فنقول : إن جعلناها أسماء للسور فنعم ، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة ، أما الرفع فعلى الابتداء ، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها ، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله ، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدودة .