( ذلك الكتاب    ) 
قوله تعالى : ( ذلك الكتاب    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : المشار إليه ههنا حاضر ، و " ذلك " اسم مبهم يشار به إلى البعيد ، والجواب عنه من وجهين : الأول : لا نسلم أن المشار إليه حاضر ، وبيانه من وجوه : 
أحدها : ما قاله الأصم    : وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض  ، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة ، وهي كل ما نزل بمكة  مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد ، فقوله : ( ذلك    ) إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة ، وقد يسمى بعض القرآن قرآنا  ، قال الله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له    ) [الأعراف : 204] وقال حاكيا عن الجن : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا    ) [الجن : 1] وقوله : ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى    ) [الأحقاف : 30] وهم ما سمعوا إلا البعض ، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت . 
وثانيها : أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي ، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه ، ويؤيده قوله : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا    ) [ المزمل : 5] وهذا في سورة المزمل ، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث . 
وثالثها : أنه تعالى خاطب بني إسرائيل  ، لأن سورة البقرة مدنية ، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل  ، وقد كانت بنو إسرائيل  أخبرهم موسى  وعيسى  عليهما السلام أن الله يرسل محمدا  صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتابا فقال تعالى : ( ذلك الكتاب    ) أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل    . 
ورابعها : أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : ( وإنه في أم الكتاب لدينا    ) [الزخرف : 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك ، فغير ممتنع أن يقول تعالى : ( ذلك الكتاب    ) ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ . 
وخامسها : أنه وقعت الإشارة بذلك إلى " الم " بعد ما سبق التكلم به وانقضى ، والمنقضي في حكم المتباعد . وسادسها : أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك - وقد أعطيته شيئا - احتفظ بذلك . وسابعها : أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها - والقرآن وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه - فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب . 
المقام الثاني : سلمنا أن المشار إليه حاضر ، لكن لا نسلم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد ، بيانه أن ذلك وهذا حرفا إشارة ، وأصلهما " ذا " ؛ لأنه حرف للإشارة ، قال تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا    ) [البقرة : 245] ومعنى " ها " تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي تنبه   [ ص: 13 ] أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه ، وقد تدخل الكاف على " ذا " للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل : " ذلك " فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه ، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيد البعد في أصل الوضع ، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها ، فصارت كالدابة ، فإنها مختصة في العرف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البعد ؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق    ) إلى قوله : ( وكل من الأخيار    ) [ص : 45-48] ثم قال : ( هذا ذكر    ) [ص : 49] وقال : ( وعندهم قاصرات الطرف أتراب  هذا ما توعدون ليوم الحساب    ) [ص : 52 ، 53] وقال : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد    ) [ق : 19] وقال : ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى  إن في ذلك لعبرة لمن يخشى    ) [النازعات : 25 ، 26] وقال : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون    ) [الأنبياء : 105] ثم قال : ( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين    ) [الأنبياء : 106] وقال : ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى    ) [البقرة : 73] أي هكذا يحيي الله الموتى ، وقال : ( وما تلك بيمينك ياموسى    ) [طه : 17] أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم . 
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث ، وهو السورة ؟ الجواب : لا نسلم أن المشار إليه مؤنث ؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم ، والأول باطل ، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث ، وأما الاسم فهو ( الم ) وهو ليس بمؤنث ، نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث ، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو ( الم ) ، لا الذي هو مؤنث وهو السورة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					