المسألة الثانية : أنه قال : ( من بين أيديهم ومن خلفهم ) فذكر هاتين الجهتين بكلمة ( من ) .
[ ص: 36 ] ثم قال : ( وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) فذكر هاتين الجهتين بكلمة ( عن ) ولا بد في هذا الفرق من فائدة . فنقول : إذا قال القائل جلس عن يمينه ، معناه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به . قال تعالى : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) ( ق : 17 ) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان ، ولم يحضر في القدام والخلف ملكان ، والشيطان يتباعد عن الملك ، فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة ( عن ) لأجل أنها تفيد البعد والمباينة ، وأيضا فقد ذكرنا أن المراد من قوله : ( من بين أيديهم ومن خلفهم ) الخيال والوهم ، والضرر الناشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة ، وذلك هو حصول الكفر ، وقوله : ( وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) الشهوة والغضب ، والضرر الناشئ منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية ، وذلك هو المعصية ، ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم ، لأن عقابه دائم . أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل ؛ لأن عقابه منقطع ، فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة ( عن ) تنبيها على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول . والله أعلم بمراده .
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال : إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه ؛ لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق .
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) وفيه سؤال : وهو أن هذا من باب الغيب ، فكيف عرف إبليس ذلك ، فلهذا السبب اختلف العلماء فيه ، فقال بعضهم : كان قد رآه في اللوح المحفوظ ، فقال له على سبيل القطع واليقين . وقال آخرون : إنه قاله على سبيل الظن ؛ لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات ، وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ، ويؤكد هذا القول بقوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا ) ( سبأ : 20 ) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) فقال الحق ما يطابق ذلك : ( وقليل من عبادي الشكور ) ( سبأ : 13 ) وفيه وجه آخر . وهو أنه : فخمسة منها هي الحواس الظاهرة ، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة ، واثنان الشهوة والغضب ، وسبعة هي القوى الكامنة ، وهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنامية ، والمولدة . فمجموعها تسعة عشر ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية ، وأما العقل فهو قوة واحدة ، وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة . لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفا جدا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة ، فلما كان الأمر كذلك ، لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال : ( حصل للنفس تسع عشرة قوة ، وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية ولا تجد أكثرهم شاكرين ) والله أعلم .