( إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ) .
قوله تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ) .
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : ( إن المتقين ) قولان :
القول الأول : قال الجبائي وجمهور المعتزلة القائلون بالوعيد : هم الذين اتقوا جميع المعاصي . قالوا : لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك . المراد بالمتقين
والقول الثاني : وهو قول جمهور الصحابة والتابعين ، وهو المنقول عن أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به . وأقول : هذا القول هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه هو أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضاربا وقاتلا كونه آتيا بجميع أنواع الضرب والقتل ، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى ; لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملا على تلك الماهية ، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقيا ، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقيا ، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار . ابن عباس
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : ( إن المتقين في جنات وعيون ) يقتضي عن شيء واحد ، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : ( حصول الجنات والعيون لكل من اتقى إلا عبادك منهم المخلصين ) وعقيب قول الله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم ، فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر ; لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر ، فثبت أن قوله : ( إن المتقين في جنات وعيون ) يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولا واعتقادا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية ، وهذا تقرير بين ، وكلام ظاهر .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( في جنات وعيون ) أما الجنات فأربعة لقوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن : 46] ثم قال : ( ومن دونهما جنتان ) [الرحمن : 62] فيكون المجموع أربعة وقوله : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) يؤكد ما قلناه ; لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى ، وقوله : ( ولمن خاف ) يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة ، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله [ ص: 153 ] تعالى في قوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) [محمد : 15] ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار .
فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون ، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين ، وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض ; لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله : ( ادخلوها بسلام آمنين ) يحتمل أن القائل لقوله : ( ادخلوها ) هو الله تعالى ، وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته ، وفيه سؤال ; لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم : ( ادخلوها ) .
والجواب عنه من وجهين :
الأول : لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها : ( ادخلوها بسلام ) .
الثاني : لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله : ( ادخلوها بسلام آمنين ) المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة ، والأمن من زوالها .
ثم قال تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم : أغل في جوفه وتغلغل ، أي ، وعن إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم علي عليه السلام أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، وحكي عن الحرث بن الأعور أنه كان جالسا عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي : مرحبا بك يا ابن أخي ، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) فقال الحرث : كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد . قال عليه السلام : فلمن هذه الآية ؟ لا أم لك يا أعور ، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ، ثم يؤمر بهم إلى الجنة . وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش ، والحقد والحسد ، وقوله : ( إخوانا ) نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة ، والمخالصة كما قال : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [الزخرف : 67] وقوله : ( على سرر متقابلين ) السرير معروف والجمع أسرة وسرر . قال أبو عبيدة يقال : سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف ، فإن جمعه فعل وفعل نحو : سرر وسرر ، وجدد وجدد ، قال المفضل : بعض تميم وكلب يفتحون ; لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد ، وقال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه ; لأنه مجلس سرور .
قال الليث : وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه . قال : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير مثل ما بين ابن عباس صنعاء إلى الجابية ، وقوله : ( متقابلين ) التقابل التواجه ، وهو نقيض التدابر ، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله : ( لا يمسهم فيها نصب ) النصب الإعياء والتعب أي : لا ينالهم فيها تعب : ( وما هم منها بمخرجين ) والمراد به كونه خلودا بلا زوال ، وبقاء بلا فناء ، وكمالا بلا نقصان ، وفوزا بلا حرمان .
[ ص: 154 ] واعلم أن للثواب أربع شرائط : وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة .
أما القيد الأول : وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله : ( إن المتقين في جنات وعيون ) .
وأما القيد الثاني : وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله : ( ادخلوها بسلام آمنين ) لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال .
وأما القيد الثالث : وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر ، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية ، وإما أن تكون جسمانية ، أما المضار الروحانية فهي الحقد ، والحسد ، والغل ، والغضب ، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله : ( لا يمسهم فيها نصب ) إشارة إلى نفي المضار الجسمانية .
وأما القيد الرابع : وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله : ( وما هم منها بمخرجين ) فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال ، فإنهم قالوا : المراد من قوله : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال ، وقوله : ( إخوانا على سرر متقابلين ) معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية ، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية ، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية ، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله : ( إخوانا على سرر متقابلين ) والله أعلم .