سؤال آخر : وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلم أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل .
سؤال آخر : لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله ( وهو أهون عليه ) [الروم : 27] [ ص: 204 ] وثامنها : قوله تعالى حكاية عن إبليس ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [الأعراف : 20] ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغرهما بذلك ، ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك .
ولقائل أن يقول : هذا قول إبليس فلا يكون حجة ، ولا يقال : إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر ، واعتقاد آدم حجة ؛ لأنا نقول : لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت ، وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيا فلم يلزم من فضل الملك عليه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيا ، وأيضا هب أن الآية تدل على أن في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت : إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب ؟ وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة ، وفي باب الحسن والجمال ، وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملك أفضل من البشر وآدم مخلوق من التراب فلعل الملائكة خلقوا من الأنوار ، آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه ، وأيضا فقوله ( إلا أن تكونا ملكين ) [الأعراف : 20] يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ، ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما ، هذا كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانا ، ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا ، وإنما المنهي غيرهما ، وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت إنها تدل على أن الملك أفضل من محمد ؟ وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل .
وتاسعها : قوله تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ) [الأنعام : 50] ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم ، وشدة القدرة والذي يدل على صحة هذا الاحتمال وجوه .
الأول : وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال ، وإحضار الأموال العظيمة ، وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة .
الثاني : أن قوله ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدورات ، وقوله ( ولا أعلم الغيب ) يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله ( ولا أقول لكم إني ملك ) معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على كل المقدورات ، والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم .
الثالث : قوله ( ولا أقول لكم إني ملك ) لم يرد به نفي الصورة ؛ لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفى أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ، ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير ، وحصول الاختلاف في الكل غير .
وعاشرها : قوله تعالى : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) [يوسف : 31] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال ، قلنا : الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في [ ص: 205 ] الصورة لأنه قال : ( إن هذا إلا ملك كريم ) فشبهه بالملك الكريم ، والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد صورته ، فثبت أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى ، وإثبات ضد ذلك ، وهي حالة الملك وهي غض البصر ، وقمع عن الميل إلى المحرمات ، فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء ، والمؤمن والكافر ، على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر .
ولقائل أن يقول : إن قول المرأة ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) كالصريح في أن مراد النساء بقولهن ( إن هذا إلا ملك كريم ) [يوسف : 31] يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة ؛ لأن ظهور عذرها في شدة عشقها ، إنما يحصل بسبب فرط تعظيم حال يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه .
فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له ، سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإعراض عن المشتهيات ، فلم يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابا من الملائكة ، وذلك أنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح أقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء ، لكن لم قلتم : إن ذلك يوجب المزيد في الفضل بمعنى كثرة الثواب ؟ فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل ، فقد سبق الكلام عليه .
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [الإسراء : 70] ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ، ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم ، أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإنس والجن والشياطين .
ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات ، وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [الإسراء : 70] فائدة ، بل كان ينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلا ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر ، ولقائل أن يقول : حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب ؛ لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب ، وأيضا فهب أن آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار ، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار ، والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارا . جنس الملائكة أفضل من جنس بني
فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول ، فكذا ههنا وأيضا فقوله ( وفضلناهم ) [الإسراء : 70] يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية ، وهي قوله ( ولقد كرمنا بني آدم ) [الإسراء : 70] ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء ، والقدرة على الأعمال العجيبة ، والمبالغة في النظافة والطهارة ، وإذا كان كذلك فنحن نسلم أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم إن الملك أكثر ثوابا من البشر ، وأيضا فقوله : ( خلق السماوات بغير عمد ترونها ) [لقمان : 10] لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي ، وكذلك قوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) [المؤمنون : 117] يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا .