ولقائل أن يقول : هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر عنهم الزلة البتة ، وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم ، لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك لا يوجب التفاوت في الفضيلة ، ومن الناس من قال إن استغفارهم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم بقولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها )
الحجة الثالثة عشرة : قوله تعالى ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) [الانفطار : 11] وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين :
الأول : أنه تعالى جعلهم حفظة لبني آدم والحافظ للمكلف من المعصية لا بد وأن يكون أبعد عن الخطأ والزلل من المحفوظ ، وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضي مزيد الفضل ، والثاني : أنه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الأمر بالعكس .
ولقائل أن يقول : أما قوله : الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فإن الملك قد يوكل بعض عبيده على ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك ، أما قوله : جعل شهادتهم نافذة على البشر فضعيف ؛ لأن الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود عليه .
الحجة الرابعة عشرة : قوله تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [النبأ : 38] والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجلاله ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى من الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى في هذا المقام ، ثم كما أنه سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكذا بين عظمته في الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] ولقائل أن يقول : كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور فلم لا يجوز أن تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم ، وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين ، فإن عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ، ثم إن هذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا ههنا .
الحجة الخامسة عشرة : قوله تعالى ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [البقرة : 285] [ ص: 207 ] فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان بهذه الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب ، وربع بالرسل وكذا في قوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) [آل عمران : 18] وقال ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [الأحزاب : 56] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ، ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا ، فوجب أن يكون قبيحا شرعا ، أما أنه قبيح عرفا ؛ فلأن الشاعر قال :
عميرة ودع إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
قال : لو قدمت السلام لأجزتك ، ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم ، وكذا في كتاب الصلح بين عمر بن الخطاب علي ومعاوية ، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف ، وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك ؛ لقوله عليه السلام : " " فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول : هذه الحجة ضعيفة ؛ لأن الاعتماد إن كان على الواو ، فالواو لا تفيد الترتيب ، وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة : قل هو الله أحد . ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
الحجة السادسة عشرة : قوله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [الأحزاب : 56] فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقائل أن يقول : هذا ينتقض بقوله : ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه ) [الأحزاب : 56] فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة .
الحجة السابعة عشرة : أن نتكلم في جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم فنقول : إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ) [التكوير : 19-22] وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال ، أحدها : كونه رسولا لله .
وثانيها : كونه كريما على الله تعالى .
وثالثها : كونه ذا قوة عند الله ، وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره .
ورابعها : كونه مكينا عند الله . وخامسها : كونه مطاعا في عالم السماوات ، وسادسها : كونه أمينا في كل الطاعات مبرأ عن أنواع الخيانات .
ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف وصف محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وما صاحبكم بمجنون ) [التكوير : 22] ولو كان محمد مساويا لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارنا له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصا من منصب محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيرا لشأنه وإبطالا لحقه ، وذلك غير جائز على الله ، فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال : إنه ليس بمجنون ، وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله : ( إنه لقول رسول كريم ) [التكوير : 19] صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام ، قلنا لأن قوله : ( ولقد رآه بالأفق المبين ) [التكوير : 23] يبطل ذلك ، ولقائل أن يقول : إنا توافقنا جميعا على أنه قد كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئا من تلك الفضائل في هذا الموضع ، فإذن [ ص: 208 ] عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل ههنا لا يدل على عدمها بالإجماع ، أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة ههنا فلم لا يجوز أن يقال : إن محمدا عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة ههنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام ههنا بهذه الصفات الست محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا بصفات ست وهي قوله : ( وصف ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) [الأحزاب : 45 ، 46] فالوصف الأول : كونه نبيا والثاني : كونه رسولا ، والثالث : كونه شاهدا ، والرابع : كونه مبشرا والخامس : كونه نذيرا ، والسادس : كونه داعيا إلى الله تعالى بإذنه ، والسابع : كونه سراجا ، والثامن : كونه منيرا وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني .