قوله تعالى : ( قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل ) .
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين :
الأول : أن يدفع عنه شرهم .
والثاني : أن يرسل معه هارون .
فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله : " كلا " ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله : ( فاذهبا ) أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون فإن قيل : علام عطف قوله : ( فاذهبا ) ؟ قلنا : على الفعل الذي يدل عليه " كلا " كأنه قال : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون .
وأما قوله : ( إنا معكم مستمعون ) فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه ، إذا أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما ، وإنما جعلنا الاستماع مجازا لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال .
وأما قوله : ( إنا رسول رب العالمين ) ففيه سؤال وهو أنه هلا ثني الرسول كما ثني في قوله : ( إنا رسولا ربك ) [ طه : 40 ] جوابه من وجوه :
أحدها : أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق ، بدليل أنك تقول : الإنسان هو الضحاك ولا تقول : كل إنسان هو الضحاك ، ولا أيضا هذا الإنسان هو الضحاك ، وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله : ( إنا رسول رب العالمين ) .
وثانيها : أن قال الشاعر : الرسول قد يكون بمعنى الرسالة
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى : إنا ذو رسالة رب العالمين .
وثالثها : أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد .
ورابعها : المراد كل واحد منا رسول .
وخامسها : ما قاله بعضهم إنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة ، وقوله : ( إنا ) فكما في قوله تعالى : ( إنا أنزلناه ) وهو ضعيف .
وأما قوله : ( أن أرسل معنا بني إسرائيل ) فالمراد من هذا الإرسال التخلية والإطلاق كقولك : أرسل البازي ، يريد خلهم يذهبوا معنا .
قوله تعالى : ( قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ) .
اعلم أن في الكلام حذفا وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به فعند ذلك قال فرعون ما قال ، يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين ، [ ص: 109 ] فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فأديا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فعدد عليه نعمه أولا ، ثم إساءة موسى إليه ثانيا ، أما النعم فهي قوله : ( ألم نربك فينا وليدا ) والوليد : الصبي لقرب عهده من الولادة . ( ولبثت فينا من عمرك ) وعن أبي عمرو بسكون الميم ، ( سنين ) قيل : لبث عندهم ثلاثين سنة ، وقيل : وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم والله أعلم بصحيح ذلك ، وعن " فعلتك " بالكسر وهي قتله القبطي لأنه قتله بالوكز وهو ضرب من القتل ، وأما الفعلة فلأنها وكزة واحدة عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه وعظم ذلك بقوله : ( الشعبي وفعلت فعلتك التي فعلت ) .
وأما قوله : ( وأنت من الكافرين ) ففيه وجوه :
أحدها : يجوز أن يكون حالا أي قتلته وأنت بذاك من الكافرين بنعمتي .
وثانيها : وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة وقد افترى عليه أو جهل أمره لأنه كان يعاشرهم بالتقية فإن . الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة
وثالثها : ( وأنت من الكافرين ) بفرعون وإلهيته أو من الذين يكفرون في دينهم فقد كانت لهم آلهة يعبدونها ، يشهد بذلك قوله تعالى : ( ويذرك وآلهتك ) [ الأعراف : 127 ] .