( قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) .
قوله تعالى : ( قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) .
اعلم أن فرعون لما ذكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة ، لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها ، ولم يشتغل بالجواب عنها ، لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك ، فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر البتة ، ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله : ( فعلتها إذا وأنا من الضالين ) والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يئول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب ، ومثل ذلك ربما حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافرا أو كافرا لنعمه ، فأما قوله : ( ففررت منكم لما خفتكم ) فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكا وكان مني في حكم السهو ، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) [ القصص : 20 ] فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة ، بل بأن يكون مسيئا فيه أقرب من حيث خوف تخويفا أوجب الفرار ، ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار ، فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكما وجعلني من المرسلين ، واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، والنبوة مفهومة من قوله : ( وجعلني من المرسلين ) فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد ، وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله : ( فوهب لي ربي حكما ) [ ص: 110 ] كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى ، وقالت المعتزلة : المراد منه الألطاف وهو ضعيف جدا لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير ، فالتخصيص لا بد فيه من فائدة ، فأما قوله : ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) فهو جواب قوله : ( ألم نربك فينا وليدا ) يقال : عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا ، فإن قيل : كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين ؟ قلنا : بيان التعلق من وجوه :
أحدها : أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم ، فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنيا عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا .
وثانيها : أن هذا الإنعام المتأخر صار معارضا بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا .
وثالثها : ما قاله الحسن : أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية .
ورابعها : المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني ، ومثل هذا لا يعد إنعاما .
وخامسها : أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه .
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا ، واختلف العلماء فقال بعضهم : إذا كان كافرا لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره ، فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقا للإهانة وللتعظيم معا ، واستحقاق الجمع بين الضدين محال . وقال آخرون : الذي يستحقه على الإيمان ، والآية تدل على هذا القول الثاني . لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح
المسألة الثانية : قال صاحب " الكشاف " إنما جمع الضمير في " منكم " و " خفتكم " مع إفراده في " تمنها " و " عبدت " لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله ، بدليل قوله : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد ، فإن قلت : " تلك " إشارة إلى ماذا و " أن عبدت " ما محلها من الإعراب ؟ قلت : " تلك " إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها ، وهي " أن عبدت " فإن " أن عبدت " عطف بيان ونظيره قوله تعالى : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) [ الحجر : 66 ] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي ، وقال الزجاج : ويجوز أن يكون " أن " في موضع نصب ، والمعنى إنما صارت نعمة علي ، لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي .