[ ص: 48 ]
( وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) ثم قال تعالى : ( وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين )
لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه ، وقال : إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه ، فليس هذا إلا تقليدا ، فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة ، أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله : (إنما اتخذتم . . . . . . . . مودة بينكم ) يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق ، وهو أن يقال : قوله : ( إنما اتخذتم . . . . . . مودة بينكم ) أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها ، وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل ، ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية ، ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية ، ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية ، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق . والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية ، حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي .
إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم ، ولا يمينهم ولا يسارهم ، ولا قدامهم ولا وراءهم ، ولا يكون جسما من الأجسام ، ولا شيئا يدخل في الأوهام ، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها ، فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان ، ثم قال تعالى : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ) يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول ، يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي ، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضا ، ويقول هذا لذاك : أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون ، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى : ( ومأواكم النار ) ثم قال تعالى : ( وما لكم من ناصرين ) يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال قبل هذا : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) على لفظ الواحد ، وقال ههنا على لفظ الجمع : ( وما لكم من ناصرين ) والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم ( حرقوه وانصروا آلهتكم ) (الأنبياء : 68) فقال : أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم أي : للأوثان وعبدتها من ناصرين ، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله : ( ولا نصير ) .
[ ص: 49 ] المسألة الثانية : قال هناك : ( ما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) وما ذكر الولي ههنا فنقول : قد بينا أن المراد بالولي الشفيع ، يعني : ليس لكم شافع ولا نصير دافع ، وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي : ما لكم كلكم ، لم يقل : شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا ، كما قال تعالى عنهم : ( يدعون أن آلهتهم شفعاء هؤلاء شفعاؤنا ) (يونس : 18 ) والشفيع لا يكون له شفيع ، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به ، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى .
المسألة الثالثة : قال هناك ( وما لكم من دون الله ) فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصرا ووليا هو الله ، وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا ( وما لكم من ناصرين ) من غير استثناء فنقول كان ذلك واردا على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا : لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم ، بل الله تعالى ينصركم إن تبتم ، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ) وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقا .