( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين )
ثم قال تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين )
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) [ العنكبوت : 54 ] فبين أن في مقابلة ما أن للمؤمنين الجنان ، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار ، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى : ( للكافرين النيران نعم أجر العاملين ) في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله : ( ذوقوا ما كنتم تعملون ) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا ، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئا ، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف ، وذلك ; لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان ، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار ، فيكون فوقه طبقات من النار ، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين ، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم .
وأما قوله تعالى : ( لهم غرف من فوقها غرف ) [ الزمر : 20 ] لا ينافي [ ذلك ] لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم ، ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار ، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء ، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها ، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها ، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم ، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذا به ، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها ، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان ، ومنها أن هناك قال ذوقوا لإيلام قلوبهم بلفظ الأمر ، وقال ههنا ( نعم أجر العاملين ) لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر ; وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده ، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه ، وأما [ ص: 76 ] إذا قال : ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ، ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك : ( ذوقوا ما كنتم تعملون ) [العنكبوت : 55] فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع ، قلنا ليس كذلك ; لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم ، لكن يبقى عليهم ذلك دائما ولا ينقص ولا يزداد ، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ما أعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم ، وإليه الإشارة بقوله : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة ، والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام ، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص .