( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا )
ثم قال تعالى : ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) .
تقريرا لقطع حجتهم ، فإنهم لما قالوا : ( ربنا أخرجنا نعمل صالحا ) وقال تعالى : ( أولم نعمركم ما يتذكر ) إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم وزاد عليه بقوله : ( وجاءكم النذير ) أي آتيناكم عقولا ، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول زاد على ذلك بقوله تعالى : ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى ، فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف ، لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض ، أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين ، وتصبحون بحالهم راضين ( من كذب الرسل فمن كفر ) بعد هذا كله ( فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ) لأن الكافر السابق كان ممقوتا كالعبد الذي لا يخدم سيده ، واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده ، والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش [ ص: 29 ] عذابه أمقت الكل .
ثم قال تعالى : ( ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا ) أي حيث لا يزيد إلا المقت ، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسارة ، فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر . الكفر لا ينفع عند الله
ثم قال تعالى : ( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا )
، وقوله : ( تقريرا للتوحيد وإبطالا للإشراك أرأيتم ) المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي جوابا ، يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد ؟ فيقول السامع : باع أو اشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبرني ، وإلا لما كان الجواب إلا قوله : لا أو نعم ، وقوله : ( شركاءكم ) إنما أضاف الشركاء إليهم من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله ، وإنما هم جعلوها شركاء ، فقال : شركاءكم ، أي الشركاء بجعلكم ، ويحتمل أن يقال : شركاءكم أي شركاءكم في النار لقوله : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [الأنبياء : 98] وهو قريب ، ويحتمل أن يقال : هو بعيد لاتفاق المفسرين على الأول ، وقوله : ( أروني ) بدل عن ( أرأيتم ) لأن كليهما يفيد معنى أخبروني ، ويحتمل أن يقال : قوله : ( أرأيتم ) استفهام حقيقي ، و ( أروني ) أمر تعجيز للتبيين ، فلما قال : ( أرأيتم ) يعني أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة ، فإن كنتم تعلمونها عاجزة ، فكيف تعبدونها ؟ وإن كان وقع لكم أن لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض ، كما قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض ، وهم الذين قالوا : أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها ؟ أم هي في السماوات ؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، والملائكة شركاء في خلق السماوات ، وهذه الأصنام صورها ؟ أم قدرتها في الشفاعة لكم ، كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئا ، ولكنهم مقربون عند الله فنعبدها ليشفعوا لنا ، فهل معهم كتاب من الله فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟ وقوله : ( أم آتيناهم كتابا ) في العائد إليه الضمير وجهان :
أحدهما : أنه عائد إلى الشركاء ، أي هل آتينا الشركاء كتابا .
وثانيهما : أنه عائد إلى المشركين ، أي هل آتينا المشركين كتابا وعلى الأول فمعناه ما ذكرنا ، أي هل مع ما جعل شريكا كتاب من الله فيه أن له شفاعة عند الله ، فإن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه ، وعلى الثاني معناه أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ، ولا في السماء شيئا من الأشياء ، وإما بالنقل ونحن ما آتينا المشركين كتابا فيه أمرنا بالسجود لهؤلاء ، ولو أمرنا لجاز كما أمرنا بالسجود لآدم وإلى جهة الكعبة ، فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية ، فوعد بعضهم بعضا ليس إلا غرورا غرهم الشيطان ، وزين لهم عبادة الأصنام .
ثم لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها ، ولا على جزء من الأجزاء بين أن بقوله : ( الله قدير إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ) ويحتمل أن يقال : لما بين شركهم ، قال مقتضى شركهم زوال السماوات والأرض ، كما قال تعالى : ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) ( مريم : 90 ) ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية : ( إنه كان حليما غفورا ) كان حليما ما ترك تعذيبهم إلا حلما منه ، وإلا كانوا يستحقون إسقاط السماء وانطباق الأرض عليهم ، وإنما أخر إزالة السماوات إلى قيام الساعة حلما ، وتحتمل الآية وجها ثالثا : وهو أن يكون [ ص: 30 ] ذلك من باب التسليم ، وإثبات المطلوب على تقدير التسليم أيضا ، كأنه تعالى قال : شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئا ، ولا في السماء جزءا ، ولا قدروا على الشفاعة ، فلا عبادة لهم . وهب أنهم فعلوا شيئا من الأشياء ، فهل يقدرون على إمساك السماوات والأرض ؟ ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون ؛ لأنهم ما كانوا يقولون به ، كما قال تعالى عنهم : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) ( لقمان : 25 ) ويؤيد هذا قوله : ( ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) فإذا تبين أن لا معبود إلا الله من حيث إن غيره لم يخلق من الأشياء ، وإن قال الكافر بأن غيره خلق ، فما خلق مثل ما خلق ، فلا شريك له ( إنه كان حليما غفورا ) حليما حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم ، وغفورا وإن استحق العقاب . يغفر لمن تاب ويرحمه