( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون )
قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون ) .
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف ، ثم بين أنه طريق باطل ومنهج فاسد ، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد ، أردفه بهذه الآية ، والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد ، وتقريره من وجهين :
الأول : أنه تعالى حكى عن إبراهيم - عليه السلام - أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل ، فنقول : إما أن يكون محرما أو جائزا ، فإن كان محرما فقد بطل القول بالتقليد ، وإن كان جائزا فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو تقليد الآباء في الأديان إبراهيم عليه السلام ، وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده ، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء ، وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره ، فنقول : إنه ترك دين الآباء ، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء ، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد ، وإذا ثبت هذا فنقول : فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا ، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا ، فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية .
الوجه الثاني : في بيان أن ، أنه تعالى بين أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين إبراهيم - عليه السلام - لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل الله دينه ومذهبه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة ، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت ، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة ، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى ، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية ، ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية .
[ ص: 179 ] أما قوله ( إنني براء مما تعبدون ) فقال الكسائي والفراء والمبرد والزجاج : ( براء ) مصدر لا يثنى ولا يجمع ، مثل عدل ورضا ، وتقول العرب : أنا البراء منك والخلاء منك ، ونحن البراء منك والخلاء ، ولا يقولون : البراءان ولا البراؤون ؛ لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء ، فإن قلت بريء وخلي ثنيت وجمعت .
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال : ( إلا الذي فطرني ) والمعنى : أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عز وجل ، ويجوز أن يكون "إلا " بمعنى " لكن " ، فيكون المعنى : لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ، أي : سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته .
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم - عليه السلام - في آية أخرى أنه قال : ( الذي خلقني فهو يهدين ) وحكى عنه ههنا أنه قال : ( سيهدين ) فأجمع بينهما وقدر كأنه قال : فهو يهدين وسيهدين ، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال ( وجعلها ) أي : وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهي قوله ( إنني براء مما تعبدون ) جاريا مجرى ( لا إله ) ، وقوله ( إلا الذي فطرني ) جاريا مجرى قوله ( إلا الله ) ، فكان مجموع قوله ( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) جاريا مجرى قوله ( لا إله إلا الله ) [ الصافات : 35 ] ثم بين تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه ، أي : في ذريته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ( لعلهم يرجعون ) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم ، وقيل : وجعلها الله ، وقرئ " كلمة " على التخفيف وفي " عقيبه " .
ثم قال تعالى : ( بل متعت هؤلاء وآباءهم ) يعني أهل مكة ، وهم عقب إبراهيم ، بالمد في العمر والنعمة ، فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد ( حتى جاءهم الحق ) وهو القرآن ( ورسول مبين ) بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات ، فكذبوا به وسموه ساحرا ، وما جاء به سحرا ، وكفروا به ، ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا ، فأعرضوا عن الحق ، قال صاحب "الكشاف" : إن قيل : ما وجه قراءة من قرأ " متعت " بفتح التاء ؟ قلنا : كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد ، وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم ؛ لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه ، فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء ، لا تقبيح فعل نفسه .