ثم قال تعالى : ( ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )
( لا تلهكم ) لا تشغلكم كما شغلت المنافقين ، وقد اختلف المفسرون منهم من قال : نزلت في حق المنافقين ، ومنهم من قال في حق المؤمنين ، وقوله : ( عن ذكر الله ) عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك : الصلوات الخمس ، وعند مقاتل : هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أقروا بالإيمان ( ومن يفعل ذلك ) أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله ( فأولئك هم الخاسرون ) أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني ، وقيل : هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث .
وقال الكلبي : الجهاد ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه ( وأنفقوا من ما رزقناكم ) قال يريد زكاة المال ومن للتبعيض ، وقيل : المراد هو الإنفاق الواجب ( ابن عباس من قبل أن يأتي أحدكم الموت ) أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله : ( رب لولا أخرتني إلى أجل قريب ) وقيل : حضهم على إدامة الذكر ، وأن لا يضنوا بالأموال ، أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان [ ص: 18 ] قليل ، وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو قوله تعالى : ( فأصدق وأكن من الصالحين ) قال هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة . وقال ابن عباس الضحاك : لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية ، وقال صاحب الكشاف : من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق ، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكنا منه ، وعن ابن عباس . وقوله : ( تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وأكن من الصالحين ) قال : أحج ، وقرئ فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون ، قال ابن عباس : و" أكون " على ما قبله لأن قوله : ( فأصدق ) جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء ، وقرأ المبرد أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفا على موضع فأصدق . وأنشد أبياتا كثيرة في الحمل على الموضع منها : سيبويه
[ معاوي إننا بشر فأسجح ] فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفا على المحل ، والباء في قوله : بالجبال ، للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق ، عطفا على المفهوم ، وأما قراءة أبي عمرو " وأكون " فإنه حمله على اللفظ دون المعنى ، ثم فقال : ( أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله ولن يؤخر الله نفسا ) يعني عن الموت إذا جاء أجلها ، قال في الكشاف : هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي ، وبالجملة فقوله : ( لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم ) تنبيه على الذكر قبل الموت : ( وأنفقوا من ما رزقناكم ) تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى : ( والله خبير بما تعملون ) أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج ، ويكون هذا كقوله : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) [ الأنعام : 28 ] والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيرا أو شرا وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله : ( ولن يؤخر الله نفسا ) لأن النفس وإن كان واحدا في اللفظ ، فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .