( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا )
ثم قال تعالى : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا )
قوله تعالى : ( وكأين من قرية ) الكلام في كأين قد مر ، وقوله : ( عتت عن أمر ربها ) وصف القرية بالعتو والمراد أهلها ، كقوله : ( واسأل القرية ) ( يوسف : 82 ) قال : ( ابن عباس عتت عن أمر ربها ) أي أعرضت عنه ، وقال مقاتل : خالفت أمر ربها ، وخالفت رسله ، فحاسبناها حسابا شديدا ، فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب ، وهو قوله : ( وعذبناها عذابا نكرا ) أي عذابا منكرا عظيما ، فسر المحاسبة بالتعذيب . وقال [ ص: 35 ] الكلبي : هذا على التقديم والتأخير ، يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا ، والمراد حساب الآخرة وعذابها ( فذاقت وبال أمرها ) أي شدة أمرها وعقوبة كفرها . وقال : عاقبة كفرها ( ابن عباس وكان عاقبة أمرها خسرا ) أي عاقبة عتوها خسارا في الآخرة ، وهو قوله تعالى : ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمدا فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم ، وقوله تعالى : ( فاتقوا الله ياأولي الألباب ) خطاب لأهل الإيمان ، أي ، وقوله : ( فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ) هو على وجهين :
أحدهما : أنزل الله إليكم ذكرا ، هو الرسول ، وإنما سماه ذكرا ؛ لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم .
وثانيهما : أنزل الله إليكم ذكرا ، وأرسل رسولا . وقال في "الكشاف" : ( رسولا ) هو جبريل عليه السلام ، أبدل من ( ذكرا ) لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، والذكر قد يراد به الشرف ، كما في قوله تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ( الزخرف : 44 ) وقد يراد به القرآن ، كما في قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر ) ( النحل : 44 ) وقرئ ( رسول ) على هو رسول ، و ( يتلو عليكم آيات الله مبينات ) بالخفض والنصب ، والآيات هي الحجج فبالخفض ؛ لأنها تبين الأمر والنهي والحلال والحرام ، ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده .
وقوله تعالى : ( ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ) يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم .
وفي الآية مباحث :
الأولى : قوله تعالى : ( فاتقوا الله ياأولي الألباب ) يتعلق بقوله تعالى : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ) أم لا ؟ فنقول : قوله : ( فاتقوا الله ) يؤكد قول من قال : المراد من ( قرية ) أهلها ، لما أنه يدل على أن فمن لا عقل له فلا خطاب عليه ، وقيل : قوله تعالى : ( خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول وكأين من قرية ) مشتمل على الترهيب والترغيب .
الثاني : الإيمان هو التقوى في الحقيقة ، وأولو الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة ، فكيف يقال لهم : ( فاتقوا الله ) ؟ نقول : للتقوى درجات ومراتب ، فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك ، فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك .
الثالث : كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور ، وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى : ( ليخرج الذين آمنوا ) أن يقال : ليخرج الذين كفروا ؟ نقول : يمكن أن يكون المراد : ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى : ( وإذ قال الله ياعيسى ) ( المائدة : 110 ) أي وإذ يقول الله ، ويمكن أن يكون : ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم .