( إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) .
قوله تعالى : ( إلا بلاغا من الله ورسالاته ) ذكروا في هذا الاستثناء وجوها :
أحدها : أنه استثناء من قوله : ( لا أملك ) أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله ، وقوله : ( قل إني لن يجيرني ) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه ، على معنى : أنه تعالى إن أراد به سوءا لم يقدر أحد أن يجيره منه ، وهذا قول الفراء .
وثانيها : وهو قول الزجاج : أنه نصب على البدل من قوله : ( ملتحدا ) والمعنى : ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغا ، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به ، وأقول هذا الاستثناء منقطع ؛ لأنه تعالى لما لم يقل : ولن أجد ملتحدا ، بل قال : ولن أجد من دونه ملتحدا ، [ ص: 146 ] والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله : ( من دونه ملتحدا ) لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه .
ثالثها : قال بعضهم : ( إلا ) معناه إن ، ومعناه : إن لا أبلغ بلاغا كقولك : ( إلا ) قياما فقعودا ، والمعنى : إن لا أبلغ ، لم أجد ملتحدا ، فإن قيل : المشهور أنه يقال : بلغ عنه ، قال عليه السلام : " " فلم قال ههنا : ( بلغوا عني ، بلغوا عني بلاغا من الله ) ؟ قلنا من ليست بصفة للتبلغ إنما هي بمنزلة من في قوله : ( براءة من الله ) [التوبة : 1] بمعنى بلاغا كائنا من الله .
أما قوله تعالى : ( ورسالاته ) فهو عطف على بلاغا كأنه قال : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله ، فأقول قال الله كذا ناسبا القول إليه, وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان .
قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ) قال الواحدي : إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل قوله : ( سيبويه ومن عاد فينتقم الله منه ) ( ومن كفر فأمتعه ) ( فمن يؤمن بربه فلا يخاف ) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب "الكشاف" وقرئ : ( فأن له نار جهنم ) على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم ، كقولك : ( فأن لله خمسه ) [الأنفال : 41] أي فحكمه أن لله خمسه .
ثم قال تعالى : ( خالدين فيها أبدا ) حملا على معنى الجمع في من وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن , وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار ، قالوا : وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها ، قالوا : وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات ؛ لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله : ( أبدا ) فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل ، أما ههنا [فقد] جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحا في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف ( والجواب ) أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات ، ونزيد ههنا وجوها : فساق أهل الصلاة مخلدون في النار
أحدها : أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور ، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة ، فقال الزوج : إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق ، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى ، ثم قال : ( ومن يعص الله ورسوله ) يعني جبريل : ( فأن له نار جهنم ) أي فإن له نار جهنم ، وإذا كان ما ذكرنا محتملا سقط وجه الاستدلال . من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه
الوجه الثاني : وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة ؛ لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكما لا تعلق له بها ، فيكون هذا الوعيد وعيدا على ترك التبليغ من الله ، ولا شك أن أعظم الذنوب ، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب ، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب ؛ لأن ترك التبليغ من الله ، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب ، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب ، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب . الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة
الوجه الثالث : وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد ، وذكرها ههنا بقيد الأبد ، فلا بد في هذا التخصيص من سبب ، ولا سبب إلا أن هذا الذنب ، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب ، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا [ ص: 147 ] الذنب ، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك ؛ لأن قوله : ( أعظم الذنوب فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) معناه أن هذه الحالة له لا لغيره ، وهذا كقوله : ( لكم دينكم ) [الكافرون : 6] أي لكم لا لغيركم . وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم ، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد ، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم . وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر ، وهو أن قوله : ( ومن يعص الله ورسوله ) إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي ، وذلك هو الكافر, ونحن نقول بأن الكافر يبقى في النار مؤبدا ، وإنما قلنا : إن قوله : ( ومن يعص الله ورسوله ) إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي ؛ لأن قوله : ( ومن يعص الله ) يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه ، مثل أن يقال : ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا ، وإلا في شرب الخمر ، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا تحت اللفظ, وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله : ( ومن يعص الله ) متناولا لمن أتى بكل المعاصي ، والذي يكون كذلك هو الكافر ، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير ، فسقط وجه الاستدلال بها . فإن قيل : كون الإنسان الواحد آتيا لجميع أنواع المعاصي محال ؛ لأن من المحال أن يكون قائلا بالتجسيم ، وأن يكون مع ذلك قائلا بالتعطيل ، وإذا كان ذلك محالا فحمل الآية عليه غير جائز ، قلنا : جائز ، فقولنا : ( تخصيص العام بدليل العقل ومن يعص الله ) يفيد كونه آتيا بجميع أنواع المعاصي ، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلا حصوله فيبقى متناولا للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها . ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به .
المسألة الثانية : تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية ، فقالوا : تارك المأمور به عاص لقوله تعالى : ( أفعصيت أمري ) [طه : 93] ، ( لا يعصون الله ما أمرهم ) [التحريم : 6] ، ( ولا أعصي لك أمرا ) [الكهف : 69] لقوله : ( والعاصي مستحق للعقاب ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) .