( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) .
واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولا ثم بالتبتل ثانيا ذكر السبب فيه فقال تعالى : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة ، والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى ، وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل ، أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته ؛ إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوبا لأجل شيء آخر ، وإلا لزم التسلسل ، فإذا لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته ، والكمال محبوب لذاته ، فإن من اعتقد أن فلانا الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفا بعلم أزيد من علم سائر الناس , مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى ، ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفا بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى ، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته , وكمال الكمال لله تعالى ، فالله تعالى محبوب لذاته ، فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله ، وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب ، والجواد المطلق هو الله تعالى , فالمحبوب المطلق هو الله تعالى ، والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى ؛ لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه ، فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه ، واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملا في ذاته ؛ لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة , فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان ، ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالبا للمعروف لا للعرفان ، فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله : ( رب المشرق والمغرب ) إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله : ( لا إله إلا هو ) إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين ، فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي ، ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر ، وهو مقام التفويض ، وهو أن يرفع الاختيار من البين ، ويفوض الأمر بالكلية إليه ، فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتل ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وههنا آخر الدرجات ، وقوله : ( فاتخذه وكيلا ) إشارة إلى هذه الحالة ، فهذا ما جرى به القلم في تفسير هذه الآية ، وفي الزوايا خبايا ، ومن أسرار هذه الآية بقايا ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [لقمان : 27] .
المسألة الثانية : "رب" فيه قراءتان :
إحداهما : الرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : على المدح ، والتقدير هو رب المشرق ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : ( بشر من ذلكم النار ) [الحج : 72] وقوله : ( متاع قليل ) [ ص: 159 ] [ آل عمران : 179] أي تقلبهم متاع قليل .
والثاني : أن ترفعه بالابتداء ، وخبره الجملة التي هي ( لا إله إلا هو ) ، والعائد إليه الضمير المنفصل .
والقراءة الثانية : الخفض ، وفيها وجهان :
الأول : على البدل من " ربك " .
والثاني : قال : على القسم بإضمار حرف القسم كقولك : الله لأفعلن وجوابه : ( ابن عباس لا إله إلا هو ) كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد ، وقرأ : "رب المشارق والمغارب . " ابن عباس
أما قوله : ( فاتخذه وكيلا ) فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلا وأن تفوض كل أمورك إليه ، وههنا مقام عظيم ، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه ، فإنه غير عالم بحقيقة " لا إله إلا هو " ، وتقريره : أن كل ما سواه ممكن ومحدث ، وكل ممكن ومحدث فإنه ما لم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب ، ولما كان الواجب لذاته واحدا كان جميع الممكنات مستندة إليه منتهية إليه ، وهذا هو المراد من قوله : ( فاتخذه وكيلا ) . وقال بعضهم : ( وكيلا ) أي : كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار .