( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا )
قوله تعالى : ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) المعنى : إنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك ، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين : كيفية معاملتهم مع الله ، وكيفية معاملتهم مع الخلق . والأول أهم من الثاني ، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني ، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين ؛ وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم . فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم ، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان ، فثبت أن ، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل ، فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين ، والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة ، ونظيره : ( من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير فأعرض عنهم وعظهم ) [ النساء : 63] ( وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف : 199] ( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ) [ النجم : 29] قال المفسرون : هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال ، وقال آخرون : بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله ، وهذا أصح .
( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا )
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادرا على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له : ذرني أنا وذاك ، أي : لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر ، وهو كقوله : ( فذرني ومن يكذب ) [ القلم : 44] ، وقوله : ( أولي النعمة ) بالفتح التنعم ، وبالكسر الإنعام ، وبالضم المسرة ، يقال : أنعم بك ونعمك عينا ، أي : أسر عينك ، وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه . ( ومهلهم قليلا ) فيه وجهان :
أحدهما : المراد من القليل الحياة الدنيا .
والثاني : المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر ، فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم . [ ص: 160 ]