[ ص: 70 ]
تسع عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم [ سورة الانفطار ]
( إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت )
بسم الله الرحمن الرحيم
( إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت )
اعلم أن المراد أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وفي تفسير هذه الآيات مقامات .
الأول : في تفسير كل واحد من هذه الأشياء التي هي وهي هاهنا أربعة ؛ اثنان منها تتعلق بالعلويات ، واثنان آخران تتعلق بالسفليات ، الأول : قوله : ( أشراط الساعة إذا السماء انفطرت ) أي انشقت وهو كقوله : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ) [ الفرقان : 25 ] ، ( إذا السماء انشقت ) [ الانشقاق : 1 ] ، ( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) [ الرحمن : 37 ] ، ( وفتحت السماء فكانت أبوابا ) [ النبأ : 19 ] و( السماء منفطر به ) [ المزمل : 18 ] قال الخليل : ولم يأت هذا على الفعل ، بل هو كقولهم : مرضع وحائض ، ولو كان على الفعل لكان منفطرة ، كما قال : ( إذا السماء انفطرت ) أما الثاني وهو قوله : ( وإذا الكواكب انتثرت ) فالمعنى ظاهر ؛ لأن عند انتقاض تركيب السماء لا بد من انتثار الكواكب على الأرض .
واعلم أنا ذكرنا في بعض السورة المتقدمة أن الفلاسفة ينكرون ، ودليلنا على إمكان ذلك أن الأجسام متماثلة في كونها أجساما ، فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، إنما قلنا : إنها متماثلة لأنه يصح تقسيمها إلى السماوية والأرضية ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فالعلويات والسفليات مشتركة في أنها أجسام ، وإنما قلنا : إنه متى كان كذلك وجب أن يصح على العلويات ما يصح على السفليات ، لأن المتماثلات حكمها واحد فمتى يصح حكم على واحد منها ، وجب أن [ ص: 71 ] يصح على الباقي ، وأما الاثنان السفليان : فأحدهما : قوله : ( إمكان الخرق والالتئام على الأفلاك وإذا البحار فجرت ) وفيه وجوه :
أحدها : أنه ينفذ بعض البحار في البعض بارتفاع الحاجز الذي جعله الله برزخا ، وحينئذ يصير الكل بحرا واحدا ، وإنما يرتفع ذلك الحاجز لتزلزل الأرض وتصدعها .
وثانيها : أن مياه البحار الآن راكدة مجتمعة ، فإذا فجرت تفرقت وذهب ماؤها .
وثالثها : قال الحسن : فجرت أي يبست .
واعلم أن على الوجوه الثلاثة ، فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها ، وهو كما ذكر أنه تغير الأرض عن صفتها في قوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [ إبراهيم : 48 ] وتغير الجبال عن صفتها في قوله : ( فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا ) [ طه : 106 ] .
ورابعها : قرأ بعضهم : " فجرت " بالتخفيف ، وقرأ : " فجرت " على البناء للفاعل والتخفيف ، بمعنى بغت لزوال البرزخ نظرا إلى قوله : ( لا يبغيان ) [ الرحمن : 20 ] لأن البغي والفجور أخوان . مجاهد
وأما الثاني : فقوله : ( وإذا القبور بعثرت ) فاعلم أن بعثر وبحثر بمعنى واحد ، ومركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، والمعنى أثيرت ، وقلب أسفلها أعلاها وباطنها ظاهرها ، ثم هاهنا وجهان :
أحدهما : أن القبور تبعثر بأن يخرج ما فيها من الموتى أحياء ، كما قال تعالى : ( وأخرجت الأرض أثقالها ) [ الزلزلة : 2 ] .
والثاني : أنها تبعثر لإخراج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك لأن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضتها ، ثم يكون بعد ذلك خروج الموتى ، والأول أقرب ؛ لأن دلالة القبور على الأول أتم .
المقام الثاني في فائدة هذا الترتيب . واعلم أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا ، وانقطاع التكاليف ، والسماء كالسقف ، والأرض كالبناء ، ومن أراد تخريب دار ، فإنه يبدأ أولا بتخريب السقف ، وذلك هو قوله : ( إذا السماء انفطرت ) ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب ، وذلك هو قوله : ( وإذا الكواكب انتثرت ) ثم إنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض وهو قوله : ( وإذا البحار فجرت ) ثم إنه تعالى يخرب آخر الأمر الأرض التي هي البناء ، وذلك هو قوله : ( وإذا القبور بعثرت ) فإنه إشارة إلى قلب الأرض ظهرا لبطن ، وبطنا لظهر .
المقام الثالث : في تفسير قوله : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) وفيه احتمالان .
الأول : أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ، ثم فيه وجوه :
أحدها : وهو الأصح أن المقصود منه ، الزجر عن المعصية ، أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ما قدم ، فلم يقصر فيه ، وما أخر فقصر فيه ، لأن قوله : ( والترغيب في الطاعة ما قدمت ) يقتضي فعلا و( وأخرت ) يقتضي تركا ، فهذا الكلام يقتضي فعلا وتركا وتقصيرا وتوفيرا ، فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار ، وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة .
وثانيها : ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وما أخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر .
وثالثها : قال الضحاك : ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت .
ورابعها : قال أبو مسلم : ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها ، فإن قيل : وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم ؟ قلنا : أما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر ، لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر .
وأما العلم التفصيل ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة .
[ ص: 72 ] الاحتمال الثاني : أن يكون المراد قيل : قيام القيامة بل عند ظهور أشراط الساعة وانقطاع التكاليف ، وحين لا ينفع العمل بعد ذلك كما قال : ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) [ الأنعام : 158 ] فيكون ما عمله الإنسان إلى تلك الغاية ، هو أول أعماله وآخرها ، لأنه لا عمل له بعد ذلك ، وهذا القول ذكره القفال .