أما الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ففيه قولان : قوله تعالى : (
القول الأول : إن هذه الآية تقتضي أن . لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين
واحتجوا عليه بوجوه :
الأول : أن الألف واللام في قوله : ( الحر ) تفيد العموم فقوله : ( الحر بالحر ) يفيد أن يقتل كل حر بالحر ، فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولا بالحر .
الثاني : أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقا لا محالة بفعل ، فيكون التقدير : الحر يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر ، بل إما أن يكون مساويا له أو أخص منه ، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولا بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولا بالعبد .
الثالث : وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) فلما ذكر عقيبه قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة ؛ لأن قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) خرج مخرج التفسير لقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) وإيجاب القصاص على الحر [ ص: 44 ] بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى ، فوجب أن لا يكون مشروعا ، فإن احتج الخصم بقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين :
أحدهما : أن قوله : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) شرع لمن قبلنا ، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ، ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا .
وثانيهما : أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام . ثم قال أصحاب هذا القول : مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ، وأن لا تقتل الأنثى إلا بالأنثى ، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع ، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية ، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد ، فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ . أما الإجماع فظاهر ، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى ، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه ، وكذا القول في ، فأما قتل الأنثى بالذكر فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم . قتل الذكر بالأنثى
القول الثاني : أن قوله تعالى : ( الحر بالحر ) لا يفيد الحصر البتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ، واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : أن قوله : ( والأنثى بالأنثى ) يقتضي ، فلو كان قوله : ( قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة الحر بالحر والعبد بالعبد ) مانعا من ذلك لوقع التناقض .
الثاني : أن قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) جملة تامة مستقلة بنفسها ، وقوله : ( الحر بالحر ) تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات ، بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور . ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين :
الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية ؛ أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك .
واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا : قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) هذا يمنع من جواز ؛ لأن القصاص عبارة عن المساواة ، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة ؛ لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة ، فوجب أن لا يكون مشروعا . أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل الحر بالعبد ، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ، ثم إن سلمنا أن قوله : ( قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس كتب عليكم القصاص في القتلى ) يوجب قتل الحر بالعبد ، إلا أنا بينا أن قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) يمنع من جواز قتل الحر بالعبد ؛ هذا خاص وما قبله عام ، لا سيما إذا كان الخاص متصلا بالعام في اللفظ فإنه يكون جاريا مجرى الاستثناء ، ولا شك في وجوب تقديمه على العام . والخاص مقدم على العام
الوجه الثاني في بيان فائدة التخصيص : ما نقله عن محمد بن جرير الطبري علي بن أبي طالب ، أن هذه الصور هي التي يكتفى فيها بالقصاص ، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد ، وبين الذكر والأنثى ، فهناك لا يكتفى بالقصاص ، بل لا بد فيه من التراجع ، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية ، إلا أن كثيرا من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن [ ص: 45 ] والحسن البصري ، وهو أيضا ضعيف عند النظر ؛ لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع ، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه . علي بن أبي طالب