فصل
وفي - إذا قلنا : يتوضأ من لحمها روايتان : الوضوء من ألبانها
إحداهما : ينقض الوضوء ، لما روى - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " عبد الله بن عمر " وعن توضأ من ألبان الإبل ، ولا توضأ من ألبان الغنم أسيد بن حضير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رواهما أنه سئل عن ألبان الإبل فقال : " توضأ من ألبانها " وسئل عن ألبان الغنم فقال : " لا تتوضأ من ألبانها أحمد ، . وابن ماجه
وعن البراء بن عازب " رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " توضأ من لحوم الإبل وألبانها الشالنجي بإسناد جيد .
وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم " " وفيه جهالة . أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يتوضأ من لحوم الإبل وألبانها
[ ص: 336 ] والثانية : لا ينقض اختارها كثير من أصحابنا ؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " رواه تمضمضوا من اللبن ؛ فإن له دسما . وهذا يفيد الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن ، وأن الأمر بها استحباب . ابن ماجه
وعن - رضي الله عنهما - أنه أتي بلبن من ألبان الإبل فشرب ، فقيل له : " ألا تتوضأ ؟ " فقال : " لا أباليه بالة اسمح يسمح لك " رواه ابن عباس سعيد .
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . الأعراب الذين قدموا المدينة أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها مع كونهم حديثي عهد بجاهلية ، ولم يأمرهم بالوضوء
وحديث أسيد فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف .
وحديث ( فيه ) بقية ، وهو ضعيف . وقول عبد الله بن عمر أحمد وإسحاق : " فيه حديثان صحيحان " يدل على ضعف ما سواهما ، وليس فيهما اللبن . ويمكن الجواب عن هذا كله . أما المضمضة من اللبن ، فلا ينفي وجوب غيره ، وذلك لأن المضمضة مأمور بها عند الشرب لإزالة الدسم ، والوضوء إنما يجب عند القيام إلى الصلاة ، كالأمر بغسل اليد عند القيام من نوم الليل ، والأمر بالاستنشاق والسواك لا ينفي وجوب غسل اليد والمضمضة والاستنشاق في الوضوء ؛ لأن ذلك لسبب وهذا لسبب ؛ وهذا لأن اللبن كاللحم ، واللحم تغسل منه اليد والفم ، ولا ينفي ذلك وجوب الوضوء منها ، والنجاسة الخارجة يغسل موضعها ، ولا يمنع ذلك وجوب الوضوء منها . وأما حديث فهو - رضي الله عنه - لم تبلغه السنة في ذلك بلاغا تقوم عليه [ ص: 337 ] به الحجة ، كما لم يبلغ عليا خبر بروع بنت واشق ، ولم يبلغ ابن عباس - رضي الله عنهما - خبر الذي وقصته راحلته ، ولم يبلغ ابن عمر - رضي الله عنهما - أحاديث المتعة والصرف ، وأشباه ذلك كثيرة . ابن عباس
وأما حديث الأعرابي فقد كان في أول الهجرة ، وأحاديث الوضوء بعد ذلك ؛ لأن أكثر رواتها مثل عبد الله بن عمر لم يصحبا النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إلا في آخر حياته ) . وقول وجابر بن سمرة أحمد وإسحاق إنما أرادا ( بقولهما ) حديثان صحيحان على طريق أهل الحديث واصطلاحهم . وأما الحسن فإنهم لا يسمونه صحيحا مع وجوب العمل به ، وهذا كثير في كلام أحمد ، يضعف الحديث ثم يعمل به ، يريد أنه ضعيف عن درجة الصحيح ، ومع هذا فراويه مقارب وليس معارض ، فيجب العمل به ، وهو الحسن ؛ ولهذا يضعف الحديث بأنه مرسل مع أنه يعمل بأكثر المراسيل . وأما بقية فثقة ، أخرج له مسلم ، وهو جليل ، إلا أنه يدلس عن رجال مجهولين ، والقياس يوافق هذه الرواية ، فإن اللبن متحلل من اللحم ، فوجب أن يعطى حكمه كما أعطي [ ص: 338 ] حكمه في التطهير والتنجيس ، ولو قيل : إن البول كذلك ، لم يستبعد ؛ لأن اللبن مأكول معتاد ، بخلاف البول ونحوه ، وإنما قال أصحابنا : إن البول والعرق والشعر لا ينقض ، ولو فرضنا أن العلة التي أوجبت النقض باللحم لم تخلص لنا ؛ فإنه لا بد له من سبب ، واللبن يشارك اللحم في عامة أحكامه .
وفي النقض بالأجزاء التي لا تسمى لحما كالكبد والطحال والسنام والكرش والمصير والجلد - وجهان ، وقيل فيها روايتان :
لكن الظاهر أنهما مخرجتان من أصحابنا ( فمنهم ) من يطلقهما ومنهم من يبنيهما على اللبن . إحداهما : لا تنقض وإن قلنا بالنقض في اللحم واللبن ؛ إذ لا نص فيه قوي ولا ضعيف ، والقياس لا يقتضيه .
والثانية : تنقض سواء إن قلنا ينقض اللبن أو لا ؛ لأن إطلاق اللحم في الحيوان يدخل في جميع أجزائه ، وإنما يذكر اللحم خاصة ؛ لأنه أغلب الأجزاء ، ولهذا دخلت في مطلق اسم الخنزير ، ولأنها أولى بالبعض من اللبن وقد جاء فيه الحديث ، ولأنه لما ذكر اللحم واللبن علم أنه أراد سائر الأجزاء ، ولأنها جزء من الجزور فنقضت كاللحم ، وقياس الشبه لا يفتقر إلى هاتين العلتين في الأصل ، فإن المشابهة بين اللحم والكبد والسنام من أبين الأشباه ؛ ولهذا اشتركا في التحليل والتحريم والطهارة والنجاسة والدسومة والزهومة ، وقولهم : الحكم بعيد إن أريد به هنا مجرد امتحان وابتلاء ، فلا يصح بعد إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التعليل ، وإن أريد به أنا نحن لم نعتقد العلة ، فهذا مسلم لمن ادعاه لنفسه ، لكن لا يمنع صحة قياس الشبه مع أننا أومأنا إلى التعليل فيما تقدم بما فهمناه من إيماء الشارع ، حيث ذكر أن الإبل حين خلقت من جن وأنها شياطين ، فأكل لحمها يورث ضربا من طباعها ونوعا من أحوالها ، والوضوء يزيل ذلك الأثر ، وهذا يشترك فيه اللحم وغيره من الأجزاء ، ولعله - [ ص: 339 ] والله أعلم - كان قد شرع الوضوء مما مست النار إما إيجابا وإما استحبابا بالماء ؛ لما تكتسبه من تأثير النار التي خلقت منها الشياطين ، لكن أثر النار عارض يزول ولا يبقى مع الإنسان ، بخلاف اللحم ، فإن تأثيره عن طبيعة وخليقة فيه ، فيحتاج إلى شيء يزيله ، فكذلك صار هنا واجبا دون ذلك .
وفي روايتان : انتقاض الوضوء باللحوم المحرمة
إحداهما : " تنقض " نص عليها في لحم الخنزير ، وخص أبو بكر النقض به لتغليظ تحريمه ، وعمم غيره في جميع اللحوم والمحرمات ؛ لأنه أولى بالنقض من لحوم الإبل .
والثانية : لا تنقض ، حكاها جماعة من أصحابنا ، واختارها كثير منهم ؛ إذ لا نص فيه ، وليس القياس بالبين حتى تقاس على المنصوص ، وكذلك لا ينقص بما يحرم من غير اللحوم ، وأما الوضوء من سائر المطاعم مباحا ، ومحرمها فليس بواجب ولا مستحب ، لكن يستحب غسل اليد والفم من الطعام كما يذكر إن شاء الله في موضعه إلا : ما مسته النار ، ففي استحباب الوضوء منه وجهان
أحدهما : يستحب لما روى - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : " أبو هريرة " رواه الجماعة إلا توضئوا مما مست النار ، ورواه البخاري مسلم من حديث عائشة ، ثم نسخ الوجوب منه أو صرف عن الوجوب ؛ لما روى وزيد بن ثابت ، ابن عباس وعمرو بن أبي [ ص: 340 ] أمية رضي الله عنهم " وميمونة " . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ " متفق عليها ، وقوله : " ولا تتوضئوا من لحوم الغنم
وعن سويد بن النعمان قال : " خيبر حتى إذا كنا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى بنا العصر ، ثم دعا بالأطعمة ، فلم يؤت إلا بسويق ، فأكلنا وشربنا ، ثم قام إلى المغرب ، فمضمض ومضمضنا ، ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ " رواه خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أحمد . ويدل على أن ذلك هو الناسخ ( فعل ) الخلفاء الراشدين ، فإنهم كانوا لا يتوضئون مما غيرت النار ، وإذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون ، فإنهم أعلم بتأويلها وناسخها ، وإذا زال الوجوب بقي الاستحباب ، لا سيما وقد ذهب خلق من الصحابة والتابعين إلى وجوب الوضوء منها ، وقال رجال من التابعين : [ ص: 341 ] الوضوء منها هو الناسخ ، ففي الوضوء احتياط وخروج من الخلاف . والبخاري
والوجه الثاني : لا يستحب ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على تركه أخيرا وهو لا يداوم على ترك الأفضل ، وأيضا فإن الوضوء منه قديما لم يكن واجبا ؛ لأن سمع الأمر به ، وإنما صحبه بعد فتح خيبر ، وحديث أبا هريرة سويد بن النعمان في تركه كان في مخرجه إلى خيبر ، فعلم أنه كان يأمر به استحبابا ويفعله ويتركه أحيانا ، ثم يترك بالكلية ، بدليل عمل الخلفاء الراشدين .