فصل
كلام الشيخ - رضي الله عنه - يقتضي أن لا ، وهو قوله وقول وضوء من غسل الميت أبي الحسن التميمي وغيرهما ؛ لما روي عن - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عباس " رواه ليس في ميتكم غسل إذا غسلتموه ، فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم وإسناده جيد ، ولم يتكلم في أحد منهم إلا في الدارقطني خالد بن مخلد القطواني ، وهما من رجال الصحيحين ؛ ولأنه لو يممه لم ينتقض وضوؤه ، فكذلك إذا غسله ، ولأنه آدمي [ ص: 342 ] فلم ينتقض كغسل الحي وغسل نفسه ، وحملوا الآثار في المسألة على الاستحباب ، والمنصوص عنه أن عليه الوضوء ، وهو قول جمهور أصحابه ، قال وعمرو بن أبي عمرو أحمد : " من غسل ميتا عليه الوضوء ، وهو أقل ما فيه ولا بد منه " وقال : " أرجو أن لا يجب الغسل ، وأما الوضوء فأقل ما فيه " وكذلك قال في مواضع أخر : " إنه لا بد من الوضوء " .
روى أن عطاء ابن عمر " كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء " . وقال وابن عباس : " أقل ما فيه الوضوء " . وقال أبو هريرة : " يكفي فيه الوضوء " ولم ينقل عن غيرهم في تركه رخصة ، يؤيد ذلك أنهم اختلفوا في وجوب الاغتسال منه ، ومن لم يوجبه انتهت رخصته إلى الوضوء ، وكان الوضوء منه شائعا بينهم ، لم ينقل عنهم الإخلال به ، قال ابن عباس : حدثني بكر بن عبد الله المزني علقمة بن عبد الله قال : " غسل أباك أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن بايع تحت الشجرة ، فما زادوا على أن حسروا على أيديهم ، وجعلوا ثيابهم في حجزهم ، فغسلوا ثم توضئوا ثم خرجوا " وأوصى أبو بكر رضي الله عنه " أن تغسله زوجته أسماء [ ص: 343 ] فغسلته ، ثم أرسلت إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل علي من غسل ؟ قالوا : لا ، فتوضأت " رواهما سعيد في مسنده ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاغتسال منه ، كما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه .
فظاهره يوجب الغسل والوضوء الذي هو بعضه ، فإذا قام الدليل على عدم وجوب ما زاد على الوضوء بقي الوضوء بحاله ، أو يقال : الأمر بالغسل أمر بالوضوء بطريق الأولى ، وفحوى الخطاب ، فإذا ترك دلالة المنطوق لم يجب أن نترك دلالة فحواه ، وقول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل ما فيه الوضوء ، ويكفي فيه الوضوء دليل على أنه أقل ما يؤمر به ، والأمر للإيجاب ؛ ولأنه وضوء مشروع لسبب ماض ، فكان واجبا كالوضوء من مس الذكر ، ومن قال هذا التزم أن لا وضوء من القهقهة ، ولا ما مسته النار ، أو يقول : وضوء متفق عليه ، أو مشروع من غير معارض ؛ ولأنه وضوء عن سبب ماض يشرع له الغسل ، فكان واجبا كوضوء المغمى عليه والمجنون والمستحاضة ، وهذا لأن شرع الغسل دليل على قوة المقتضي للطهارة ، فإذا نزل إلى استحباب الغسل فلا أقل من أن يوجب الوضوء ، بخلاف الأسباب المستقبلة كغسل الإحرام والجمعة والعيدين ، فإن المراد بها النظافة فقط ، وهذا القياس من أقوى الأشباه لمن تدبره ، ولأن بدن الميت صار في حكم الغرور بنفسه بدليل كراهة مسه والنظر إليه لا لحاجة ، وهو مظنة لخروج النجاسات ، فجاز أن يوجب الوضوء كمس الذكر ، ولا ينتقض بمسه من غير غسل ؛ لأن التعليل للنوع والجواز ، فلا ينتقض بأمهات المسائل ؛ ولأن لمس الناقض يفرق فيه بين ممسوس وممسوس ، فمس الفرج ينقض مطلقا ، ومس النساء إذا كان على وجه الشهوة ، ومس الميت إذا كان على وجه التغسيل له سواء مسه من وراء حائل أو باشره ، وهذا أجود من تعليل من علله من أصحابنا بأن الغاسل لا يسلم غالبا من مس ذكره .
[ ص: 344 ] وأما حديث - رضي الله عنهما - إن صح ، فمعناه - والله أعلم - ابن عباس ، ويدل على هذا شيئان : حسبكم في إزالة ما يتوهم من نجاسته أن تغسلوا أيديكم ، فإنه ليس بنجس ، وإنما يخشى أن يكون قد خرج منه شيء أصاب اليد
أحدهما : أن هو راوي الحديث ، وقد أفتى أن الذي يكفي منه الوضوء ، وهو أعلم بمعنى ما روى . ابن عباس
وثانيهما : أن قوله : " " أي حمل على الاستحباب ، كأن معناه : يكفيكم في الاستحباب غسل أيديكم ، وهو أيضا مما لا يقال به على ما ادعوه ، فإن الوضوء منه مشروع ، بل الاغتسال أيضا ، فيكون المعنى : يكفيكم في إزالة ما يتوهم من الخبث ، والله أعلم . حسبكم أن تغسلوا أيديكم
وما ذكروه من الأقيسة منعكس باستحباب الوضوء ، فإنهم لم يستحبوا الوضوء في تيممه ، ولا تغسيل الحي ، أو استحبوه هنا ، وجاءت به الآثار ، فكل معنى اقتضى الفرق في الاستحباب حصل الفرق به في الإيجاب ؛ لأنه وضوء جاء به الشرع مطلقا ، وكان واجبا كالوضوء من مس الذكر ولحم الجزور ، بل وأوكد من حيث إنه لم يجئ رخصة في ترك الوضوء منه ولا أثر يعارضه ، والله أعلم . والغاسل هو الذي يقلبه ويباشره ويعين في ذلك ولو مرة ، فأما من يصب الماء فقط من غير ملامسة للميت فليس بغاسل .