مسألة : ( والسعي ) .
يعني به بين الصفا والمروة .
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه ; فروي عنه : أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به ; قال - في رواية - فيمن انصرف ، ولم يسع : يرجع فيسعى وإلا فلا حج له . الأثرم
وقال - في رواية ابن منصور - إذا بدأ بالصفا والمروة [ ص: 624 ] يرجع قبل البيت لا يجزئه .
وقال - في رواية أبي طالب - في : فسدت عمرته وعليه مكانها ، ولو معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى فعليه دم ، إنما العمرة الطواف والسعي ، والحلاق . طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يقصر
وروي عنه : أنه سنة ، قال - في رواية أبي طالب - : فيمن الصفا والمروة ، أو تركه عامدا ، فلا ينبغي له أن يتركه ، وأرجو أن لا يكون عليه شيء . نسي السعي بين
وقال - في رواية الميموني - : السعي بين الصفا والمروة تطوع ، والحاج والقارن والمتمتع عند واحد إذا طافوا ولم يسعوا . عطاء
وقال - في رواية حرب - فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه .
وقال القاضي في المجرد ... وغيره ، هذا واجب يجبره دم ، هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه .
فمن قال : إنه تطوع احتج بقوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) [ ص: 625 ] ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) فأخبر أنهما من شعائر الله ، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون ، دون زيادة على ذلك ، إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ثم قال : ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ، ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما - كما سيأتي إن شاء الله - : فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما . وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك . فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما ، وإماطة الشبهة العارضة . فأما زيادة على ذلك : فلا . ثم قال تعالى : ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه ، ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع ، كان دليلا على أنه تطوع ، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة .
وعن عن عطاء : أنه كان يقرأ : ( أن لا يطوف بهما ) . ابن عباس
وعن في قراءة عطاء ، أو في مصحف ابن مسعود ، ( أن لا يطوف بهما ) رواهما ابن مسعود أحمد في الناسخ والمنسوخ .
[ ص: 626 ] وعن قال : أنس الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، حتى نزلت : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) متفق عليه ، لفظ كانت مسلم ، ولفظ : عن البخاري قال : " سألت عاصم بن سليمان عن أنس بن مالك الصفا والمروة ؟ قال : كنا نرى من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ، فذكر إلى " بهما " .
فهذا : قد علم سبب نزول الآية ، وقد كان يقول : " إنه تطوع " فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع . أنس بن مالك
وأما من قال : إنها واجبة - في الجملة - وهو الذي عليه جمهور [ ص: 627 ] أصحابنا ، فإن الله قال : هما ( من شعائر الله ) وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت ، فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه ، ويتعبد فيها له ، وينسك حتى صارت أعلاما ، وفرض على الخلق قصدها ، وإتيانها . فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له ، ويكون الخلق مخيرين بين قصده ، والإعراض عنه ; لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه ، واجب لقول الله تعالى : ( وتعظيم الشعائر ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) والتقوى واجبة على الخلق ، وقد أمر الله بها ، ووصى بها في غير موضع ، وذم من لا يتقي الله ، ومن استغنى عن تقواه توعده ، وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما ، وتعظيمهما من تقوى القلوب ، والتقوى واجبة ، كان الطواف بهما واجبا ، وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما ، كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن التي شرفها الله ، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية .
وأما قوله : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف ، بحيث يستوي وجوده وعدمه ، لأنهما [ ص: 628 ] جعلهما من شعائر الله ، ثم قال : ( فلا جناح عليه ) والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء ، علم أنه علة ، فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج ، ثم أتبع ذلك بما يدل على الترغيب ، وهو قوله : ( ومن تطوع خيرا ) الآية . نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) وقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) وقوله : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) الآية ، فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار ، والموجب للصلاة موجود حال السفر ، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان ، قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية ، خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك ، وقد تقدم عن أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية . أنس
وعن الزهري عروة ، قال : سألت ، فقلت : " أرأيت عائشة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف قول الله عز وجل : ( بالصفا والمروة ؟ قالت : بئس ما قلت يا ابن أخي ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت : لا جناح أن لا يطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من [ ص: 629 ] أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية ، قالت - رضي الله عنها - : وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، ثم أخبرت عائشة ، فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت أبا بكر بن عبد الرحمن ممن كان يهل لمناة - كانوا يطوفون كلهم عائشة بالصفا والمروة ، فلما ذكر طواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله كنا نطوف بالصفا ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت ، فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية .
قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما ; في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر [ ص: 630 ] الصفا ، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت " متفق عليه . عن
وعن عن أبيه قال : هشام بن عروة - وأنا حديث السن - أرأيت قول الله : ( لعائشة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ، فقالت : كلا لو كانت كما تقول : كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين عائشة الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام ، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) متفق عليه ، وفي لفظ " قلت : لمسلم الصفا والمروة ". [ ص: 631 ] وفي لفظ له : " إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا ، أهلوا لمناة في الجاهلية ، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنة في آبائهم : من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة " . " إن
وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي ، نصب بين الصفا صنما يقال له : نهيك مجاود الريح ، ونصب على المروة صنما يقال له : مطعم الطير ، ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا ، وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما ، ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات ، وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة ، وكانوا يهلون لها ، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة ، لمكان الصنمين الذين عليهما : نهيك مجاود الريح ، ومطعم الطير ، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة ، قال : وكانت مناة للأوس والخزرج ، وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب ، وأهل الشام ، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، وذكره بإسناده عن ابن [ ص: 632 ] السائب ، قال : كانت صخرة لهذيل ، وكانت بقديد .
فقد تبين : أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها .
أما الأنصار في الجاهلية : فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له ، ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة .
وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية - غير الأنصار - كانوا يعظمونهما ، ولم يجر لهما ذكر في القرآن . وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين ، وتعظيما لشعائر الله . فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) ، وأوجب حجها على البيت ، فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله ، كان الأظهر إيجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت ، ولذلك المزدلفة ، فأفاض من عرفات ، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة ، ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا . فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه ، أوجب الله النسك فيه . سن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من
وأما قوله : ( ومن تطوع خيرا ) فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الاستجابة والانقياد ، يقال : طوعت الشيء فتطوع أي سهلته [ ص: 633 ] فتسهل كما قال : ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) ، وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية .
ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة ، وانقيادا صرفا ، وذلا للنفوس ، وخروجا عن العز ، والأمور المعتادة ، وليس فيها حظ للنفوس ، فربما قبحها الشيطان في عين الإنسان ، ونهاه عنها ، ولهذا قال : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) قال رجل من أهل العلم : هو طريق الحج ، وقال بعد أن فرض : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام ، فلا يرى حجه برا ، ولا تركه إثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة ، فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما ، فقال سبحانه : ( ومن تطوع خيرا ) فاستجاب لله وانقاد له ، وفعل هذه العبادة طوعا ، لا كرها ، عبادة لله ، وطاعة له ولرسوله . وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر ، وتطوع الخير خلاف تكرهه . فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها ، فهو متطوع خيرا ، سواء كان واجبا ، أو مستحبا ، نعم ميز الواجب بأخص اسميه ، فقيل : فرض ، أو واجب وبقي الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين ، كلغة الدابة والحيوان وغيرهما .
وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - : طاف في عمرته ، وفي حجته ، والمسلمون معه بين الصفا والمروة ، وقال : " " ، والطواف بينهما من [ ص: 634 ] أكبر المناسك ، وأكثرها عملا ، وخرج ذلك منه مخرج الامتثال لأمر الله بالحج في قوله : ( لتأخذوا عني مناسككم ولله على الناس حج البيت ) وفي قوله : ( وأتموا الحج والعمرة ) ، ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر ، فكان فعله هذا على الوجوب ، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات ، وأما جنس تام من المناسك ، ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة ، فلا يجوز أصلا ، وبهذا احتج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال : " عمرو بن دينار عن ابن عمر الصفا والمروة أيأتي امرأته ؟ فقال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وبين رجل قدم بعمرة ، فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة سبعا ، وقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة " متفق عليه ، وزاد سألنا : " البخاري ، فقال : لا يقربنها حتى يطوف جابر بن عبد الله بالصفا والمروة " . وسألنا
وأيضا : فما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : " وعائشة وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ، وذكر الحديث " متفق عليه . وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة ، وفي ضمنه أشياء كلها واجب . من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت
وعن قالت : " عائشة الصفا والمروة أن يحل " متفق عليه ، فأمره بالحل بعد الطوافين ، فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك . أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا [ ص: 635 ] طاف بالبيت وبين
وعن أبي موسى قال : " وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأهللت " ، وفي لفظ : " أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل " متفق عليه . . . فطف بالبيت
ثم من قال : هو واجب يجب بتركهما هدي ، قال : قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن ، لأن المناسك ; إما وقوف ، أو طواف ، والركن من جنس الوقوف نوع واحد ، فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا ; لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع .
ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام ، فإنه إذا وقف بعرفة ، ثم مات فعل عنه سائر الحج ، وتم حجه ، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط . والسعي لا يقصد بإحرام ، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار ، ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت ، كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة ، لأنه وقوف بعد وقوف ، وطواف بعد طواف ، ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول ; فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت ، ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات ، وقد دل على ذلك قوله ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) وقوله : ( فإذا أفضتم من عرفات ) الآية ، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن ، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا ; لأن الأمر بذلك في القرآن [ ص: 636 ] أظهر ; وذلك لأن ما لا يفعل إلا تبعا لغيره ، يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع ، والناقص عن الركن هو الواجب ; ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب ، وطرد ذلك أركان الصلاة ، فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض ; فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة ، والركوع ابتداء في صلاة المسبوق ، والسجود عند التلاوة والسهو ، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده ، فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض ، وهنا . إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده
ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة .
ولأنه لو كان لتوقت أوله وآخره كالإحرام والطواف والوقوف ، والسعي لا يتوقت .
ومن قال : إنه ركن احتج على ذلك بما روت أخبرتني صفية بنت شيبة حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت : " الصفا والمروة ، فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدة السعي ، حتى أقول إني لأرى ركبتيه ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ، وفي رواية : " نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم ، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " رواه رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يطوف بين أحمد ، [ ص: 637 ] ورواه أيضا عن صفية امرأة أخبرتها الصفا والمروة - يقول : كتب عليكم السعي فاسعوا " . أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين
وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد ، وأمره على الوجوب كما تقدم ، وما ثبت وجوبه : تعين فعله ، ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل .
وأيضا : فإنه نسك يختص بمكان ، يفعل في الحج والعمرة ، فكان ركنا كالطواف بالبيت ، وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته .
واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع ، وقد قيل : نسك يتكرر في النسكين ، فلم ينب عنه الدم كالطواف والإحرام .
وأيضا : فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا ، لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا ; لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته ، والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج ، . والسعي لا يختص بوقت
وأيضا : فإن أفعال الحج على قسمين ; مؤقت وغير مؤقت ، فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته ، أو يجبر بدم ، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله . وأما غير المؤقت : إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه ، لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات ، والطواف والسعي : ليسا بمؤقتين في الانتهاء فإلحاق أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار ; لأن ذلك يفوت بخروج وقته ، وبهذا [ ص: 638 ] يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف ...