مسألة : ( والمبيت بمنى )
منى إلا بها ; لأن الله سبحانه قال : ( السنة للحاج : أن لا يبيت ليالي واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ومعنى التعجل : هو الإفاضة من منى ، فعلم أنه قبل التعجل يكون مقيما بها ، فلو [ ص: 642 ] لم يبت بها ليلا - وليس عليه أن يقيم بها نهارا - : لم يكن مقيما بها ، ولم يكن فرق بين إتيانه منى لرمي الجمار ، وإتيانه مكة لطواف الإفاضة والوداع .
والآية : دليل على أن عليه أن يقيم في الموضع الذي شرع فيه ذكر الله ، وجعل ذلك المكان والزمان عيدا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوا ذلك ; ولأن العباس " بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له " متفق عليه . استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت
فاستئذان العباس : دليل على أنهم كانوا ممنوعين من المبيت بها ، وإذنه له من أجل السقاية : دليل على أنه لا يؤذن في ترك المبيت بغير عذر .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام
والعيد : هو المجتمع للعبادة ; فيوم عرفة ويوم النحر يجتمعون بعرفة ومزدلفة , ومنى : وأيام منى ، لا بد أن يجتمعوا ، وهم لا يجتمعون نهارا لأجل مصالحهم ، فإنهم يرمون الجمار متفرقين ، فلا بد من الاجتماع ليلا .
وعن قال : " لا يبيتن أحد من الحاج من وراء جمرة ابن عمر العقبة ، وكان يبعث إلى من وراء العقبة ، فيدخلون منى " رواه مالك وأحمد وهذا لفظه .
وعن نافع عن أسلم أن - رضي الله عنه - قال : " لا يبيتن أحد من الحاج وراء جمرة عمر بن الخطاب العقبة ، وكان يرسل رجالا فلا يجدون أحدا شذ من [ ص: 643 ] منى إلا أدخل " .
وعن قال : " لا يبيتن أحد من وراء جمرة ابن عمر العقبة ليالي منى " رواهما أحمد ... فإن بمنى : فقال ترك المبيت أبو بكر - في الشافي - : روي عنه عليه الدم ، وروي : يتصدق بشيء ، وروي عنه : لا شيء عليه ، وبهذا أقول .
فهذه ثلاث روايات ; إحداهن : لا شيء عليه - قال في رواية المروذي - : من بات بمكة ليالي منى يتصدق بشيء وإن بات من غير عذر أرجو أن لا يكون عليه شيء .
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرخص لأهل السقاية في ترك المبيت بها ، وللرعاة . كما أرخص للضعفة في الإفاضة من جمع بليل ، ولو كان واجبا ، لم يسقط إلا لضرورة ، كطواف الوداع .
ولأن قال : " إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت " رواه ابن عباس أحمد في رواية حرب .
[ ص: 644 ] ولأنه أحد المبيتين بمنى ، فلم يجب كالمبيت بها ليلة عرفة عشية التروية .
والثانية : قال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال : ولا يبيت أحد ليالي منى من وراء العقبة ، ومن زار البيت رجع من ساعته ، ولا يبيت آخر الليالي إلا بمنى ; لأن عمر - رضي الله عنه - : منع من ذلك ، فمن بات فعليه دم وهذا قول ..... القاضي وأصحابه ، لأنه واجب كما تقدم ، ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم ، كما لو بمزدلفة . قال القاضي - في خلافه - فإنها تجب رواية واحدة . ترك المبيت
والثانية : يتصدق بشيء وهو أكثر عنه .
قال - في رواية ابن منصور - : من بات دون منى ليلة يطعم شيئا .
قال - في رواية حرب - في العقبة ليالي منى : يتصدق بشيء . [ ص: 645 ] قال الرجل يبيت وراء عن ابن جريج : " يتصدق بدرهم " . عطاء
ومغيرة عن شعبة قال أبو عبد الله : " الدم شديد " .
ويحيى عن سفيان : " ليس عليه شيء " ، وكان سفيان يرخص .
وقال : " إذا رميت جمرة ابن عباس العقبة فبت حيث شئت " .
وقال - في رواية - فيمن جاء للزيارة فبات الأثرم بمكة يعجبني أن يطعم شيئا ، وخففه بعضهم يقول : " ليس عليه شيء " ، وإبراهيم قال : " عليه دم " وضحك وقال : " الدم شديد " ، وكذلك نقل ابن أبي عبدة .
وقال - في رواية أبي طالب وابن إبراهيم - " لا يبيت أحد بمكة ليالي منى فمن غلبته عينه فليتصدق بدرهم ، أو بنصف درهم " ، كذا قال ، ولا يبيت عامدا . [ ص: 646 ] فقد أمره أن يتصدق بشيء ولم يقدره ، وقال مرة : درهم أو نصف درهم ; لأنه أقل ما يتصدق به من النقود ، وإن تصدق بطعام .... عطاء
وذلك لأن الإذن في ترك هذا المبيت لحاجة غير ضرورية تدل على أنه ليس من المناسك المؤكدة ، فإن المناسك المؤكدة ، لا يرخص في تركها لأحد . ولو قيل : تقدر به .
ولو ترك المبيت ليلة واحدة ، أو ليلتين ، فقال القاضي - في خلافه وابن عقيل : ليس عليه دم رواية واحدة ، بخلاف ترك المبيت بمزدلفة ، فإنها نسك واحد ، فإذا تركه لزمه الدم ، وليالي منى جميعها نسك واحد ، فلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ، كما لو ترك حصاة ، أو حصاتين .
واستشهدوا على ذلك بما تقدم عنه : أنه استكثر الدم في ترك ليلة واحدة وأمره أن يتصدق بشيء ، وخرجاها على ثلاث روايات :
إحداهن : يتصدق بدرهم ، أو نصف درهم ، وهو المنصوص عنه هنا .
والثانية : في ليلة مد ، وفي ليلتين مدان .
والثالثة : في ليلة قبضة من طعام ، وفي ليلتين قبضتان ، وهاتان مخرجتان من حلق شعرة ، أو شعرتين .
وأما أبو الخطاب : فإنه جعل في ترك المبيت ليالي منى الدم قولا واحدا [ ص: 647 ] وذكر في ترك ليلة ، أو ليلتين أربع روايات .
إحداهن : عليه دم .
والثانية : يتصدق بدرهم ، أو نصف درهم .
والثالثة : مد من طعام .
والرابعة : لا شيء عليه .
ومن سلك هذه الطريقة : حمل كلام أحمد في الأمر بالصدقة ، وفي كونه لا شيء عليه على الليلة والليلتين ، وأصحاب هاتين الطريقتين : يسوون بين ثلاث حصيات ، وترك ثلاث ليال ، وحلق ثلاث شعرات ، ويجعلون عدد الليالي كعدد الحصى والشعر ، قالوا : لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يجب في جميعه دم ، وفي بعضه صدقة ، فلذلك سوينا بينهما . لكن منصوص أحمد في أن من بات ليالي منى من وراء العقبة ، يتصدق بشيء ، أو لا شيء عليه تبطل هذه الطريقة .
والطريقة المنصوصة عن أحمد : أن في الليلة ، والليالي الثلاث ، ثلاث روايات كما تقدم لفظه فيهن ، إحداهن : عليه دم ، والثانية : عليه صدقة ، والثالثة : لا شيء عليه ، وغير مستنكر إيجاب الدم في جملة وإيجابها في بعضها ، فإن رمي الجمار كلها فيها دم ، وفي الجمرة الواحدة - أيضا - دم ، بل المنصوص عنه : أنه إذا ترك مزدلفة ومنى ورمي الجمار وطواف الوداع ، كفاه دم .
وكذلك لا فرق بين أن يحرم دون الميقات بمسافة قليلة ، أو كثيرة ولا فرق بين أن يخرج من عرفات قبل المغيب بزمن طويل ، أو طويل ... ، وإلحاق هذه [ ص: 648 ] بالحصى ، وبحلق الشعر : لا يصح ; لأن ذاك قد ثبت بالنص والإجماع أن في جميعه دما ، وهنا الخلاف في أصل وجوبه .
فصل : .... وقدر المبيت الواجب بمنى