( 20 ) مسألة : قال : ( فهو طاهر ) . والقلة : هي الجرة ، سميت قلة لأنها تقل بالأيدي ، أي تحمل ، ومنه قوله تعالى : { وإذا كان الماء قلتين ، وهو خمس قرب ، فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } ويقع هذا الاسم على الكبيرة والصغيرة .
والمراد بها هاهنا قلتان من قلال هجر ، وهما خمس قرب ، كل قربة مائة رطل بالعراقي ، فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي . هذا ظاهر المذهب عند أصحابنا ، وهو مذهب ; لأنه روي عن الشافعي أنه قال : رأيت قلال ابن جريج هجر ، القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا . فالاحتياط أن يجعل قربتين ونصفا .
وروى ، الأثرم وإسماعيل بن سعيد ، عن ، أن القلتين أربع قرب ، وحكاه أحمد عن ابن المنذر في " كتابه " ; وذلك لما روى أحمد الجوزجاني ، بإسناده عن يحيى بن عقيل ، قال : رأيت قلال هجر ، وأظن كل قلة تأخذ قربين . وروي نحو هذا عن . ابن جريج
واتفق القائلون بتحديد الماء بالقرب على تقدير كل قربة بمائة رطل بالعراقي ، لا [ ص: 31 ] أعلم بينهم في ذلك خلافا ، ولعلهم أخذوا ذلك ممن اختبر قرب الحجاز ، وعرف أن ذلك مقدارها .
وإنما خصصنا هذا بقلال هجر لوجهين : أحدهما أنه قد روي في حديث مبينا ، رواه ، في " معالم السنن " بإسناده إلى الخطابي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا { ابن جريج هجر } وذكر الحديث . إذا كان الماء قلتين بقلال
والثاني أن قلال هجر أكبر ما يكون من القلال ، وأشهرها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ذكره قال : وهي مشهورة الصنعة ، معلومة المقدار . لا تختلف كما لا تختلف الصيعان والمكاييل ; ولأن الحد لا يقع بالمجهول . الخطابي
وقال : هي الحباب ، وهي مستفيضة معروفة ، فينبغي أن يحمل لفظ القلتين عليها ; لشهرتها وكبرها ، فإن كل معدود جعل مقدارا واحدا لم يتناول إلا أكبرها ; لأنها أقرب إلى العلم ، وأقل في العدد ، ولذلك جعل نصاب الزكاة بالأوسق ، دون الآصع والأمداد . أبو عبيد
وقد دلت هذه المسألة بصريحها على أن ما بلغ القلتين فلم يتغير بما وقع فيه لا ينجس ، وبمفهومها على أن ما تغير بالنجاسة نجس وإن كثر ، وأن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، وإن لم يتغير .
فأما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه ، قال : أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير ، إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت للماء طعما أو لونا أو رائحة ، أنه نجس ما دام كذلك . وقد روى ابن المنذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبو أمامة الباهلي } . رواه الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه . ابن ماجه
وقال حرب بن إسماعيل : سئل عن أحمد قال : لا يتوضأ به ولا يشرب ، وليس فيه حديث ، ولكن الله تعالى حرم الميتة ، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه ، فذلك طعم الميتة وريحها ، فلا يحل له ، وذلك أمر ظاهر . الماء إذا تغير طعمه أو ريحه ،
وقال : إنما قال الخلال : ليس فيه حديث ; لأن هذا الحديث يرويه أحمد سليمان بن عمر ، ورشدين بن سعد ، وكلاهما ضعيف رواه من طريق ، وابن ماجه رشدين . وأما فالمشهور في المذهب أنه ينجس ، وروي عن ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها ، ، ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وبه قال ومجاهد ، الشافعي وإسحاق ، . وأبو عبيد
وروي عن رواية أخرى ، أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليله وكثيره ، وروي مثل ذلك عن أحمد ، حذيفة ، وأبي هريرة ، قالوا : الماء لا ينجس . وروي ذلك عن وابن عباس ، سعيد بن المسيب والحسن ، وعكرمة ، ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي ، ، والثوري ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وهو قول وابن المنذر ; لحديث للشافعي أبي أمامة الذي أوردناه .
وروى ، قال : { أبو سعيد } رواه قيل يا رسول الله ، أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض ، ولحوم الكلاب ، والنتن - فقال : إن الماء طهور لا ينجسه شيء . ، أبو داود ، والنسائي والترمذي ، وقال : حديث حسن . قال : قال الخلال : حديث أحمد بئر بضاعة صحيح . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم { مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب والحمر ، وعن الطهارة بها ، فقال : لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما غبر طهور } ولم يفرق بين القليل والكثير ; ولأنه لم يظهر عليه إحدى صفات النجاسة ، فلم ينجس بها كالزائد عن القلتين . ووجه الرواية الأولى ، ما روى سئل عن الحياض التي بين ، { ابن عمر رضي الله عنه } . رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل [ ص: 32 ] عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع ، فقال إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ، أبو داود ، والنسائي والترمذي ، ، وفي لفظ : { وابن ماجه } . إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء
وتحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس ، إذ لو استوى حكم القلتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدا .
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } . فلولا أنه يفيده منعا لم ينه عنه . أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب ، وإراقة سؤره ، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير ، مع أن الظاهر عدم التغير ، وخبر إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده أبي أمامة ضعيف ، وخبر بئر بضاعة والخبر الآخر محمولان على الماء الكثير ، بدليل أن ما تغير نجس ، أو نخصهما بخبر القلتين ، فإنه أخص منهما ، والخاص يقدم على العام .
وأما فلا يختلف المذهب في طهارته ، وروي ذلك عن الزائد عن القلتين ، إذا لم يتغير ، ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة ، ، ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وهو قول ومجاهد ، الشافعي وإسحاق ، وأبي عبيدة ، وهو قول من حكينا عنهم أن اليسير لا ينجس إلا بالتغير . وأبي ثور
وحكي عن ، أنه قال : إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث . وقال ابن عباس عكرمة : ذنوبا أو ذنوبين . وذهب وأصحابه إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة ، إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه . واختلفوا في حده ; فقال بعضهم : ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر . أبو حنيفة
وقال بعضهم : ما بلغ عشرة أذرع في عشرة أذرع ، وما دون ذلك ينجس ، وإن بلغ ألف قلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } . متفق عليه ، فنهى عن الوضوء من الماء الراكد بعد البول فيه ، ولم يفرق بين قليله وكثيره ; ولأنه ماء حلت فيه نجاسة لا يؤمن انتشارها إليه ، فينجس بها كاليسير . لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه
ولنا خبر القلتين ، وبئر بضاعة ، اللذان ذكرناهما ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } ، مع قولهم له : أنتوضأ من الماء طهور لا ينجسه شيء بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ وبئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه . قال : قدرت أبو داود بئر بضاعة بردائي ، مددته عليها ، ثم ذرعته ، فإذا عرضها ستة أذرع ، وسألت الذي فتح لي باب البستان : هل غير بناؤها عما كانت عليه ؟ قال : لا .
وسألت قيمها عن عمقها ، فقلت : أكثر ما يكون فيها الماء ؟ قال : إلى العانة . قلت : فإذا نقص . قال : دون العورة ; ولأنه ماء يبلغ القلتين ، فأشبه ما زاد على عشرة أذرع ، وحديثهم عام وحديثنا خاص ، فيجب تقديمه .
الثاني ، أن حديثهم لا بد من تخصيصه ، فإن ما زاد على الحد الذي ذكروه لا يمنع من الوضوء به اتفاقا ، وإذا وجب تخصيصه كان تخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تخصيصه بالرأي والتشهي من غير أصل يرجع إليه ، ولا دليل يعتمد عليه ; ولأن ما ذكروه من الحد تقدير طريقه التوقيف لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع ، وليس معهم نص ولا إجماع ; ولأن حديثهم خاص في البول ، ونحن نقول به على إحدى الروايتين ، ونقصر الحكم على ما تناوله النص ، وهو البول ; لأن له من التأكيد والانتشار في الماء ما ليس لغيره ، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : المراد بقوله : { } . أي لم يدفع الخبث عن نفسه ، أي أنه ينجس بالواقع فيه . قلنا هذا فاسد لوجوه : أحدها ، أن في بعض ألفاظه { لم يحمل الخبث } رواه لم ينجس ، أبو داود ، واحتج به وابن ماجه . أحمد
[ ص: 33 ] الثاني أنه لو أراد أن ما بلغ القلتين في القلة ينجس لكان ما فوقهما لا ينجس ، لتحقق الفرق بينهما ، فإنه جعل القلتين فصلا بين ما يتنجس وما لم يتنجس ; فلو سوينا بينهما لم يبق فصل .
الثالث أن مقتضاه في اللغة أنه يدفع الخبث عن نفسه ، من قولهم : فلان لا يحتمل الضيم . أي يدفعه عن نفسه ، والله أعلم .
( 21 ) فصل : اختلف أصحابنا : هل القلتان خمسمائة رطل تحديدا أو تقريبا ؟ قال : أبو الحسن الآمدي : الصحيح أنها تحديد ، وهو ظاهر قول ، وأحد الوجهين لأصحاب القاضي ; لأن اعتبار ذلك كان احتياطا ، وما اعتبر احتياطا كان واجبا ، كغسل جزء من الرأس مع الوجه ، وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ; ولأنه قدر يدفع النجاسة عن نفسه ، فاعتبر تحقيقه كالعدد في الغسلات . الشافعي
والصحيح أن ذلك تقريب ; لأن الذين نقلوا تقدير القلال لم يضبطوهما بحد ، إنما قال : القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا . وقال ابن جريج يحيى بن عقيل : أظنها تسع قربتين .
وهذا لا تحديد فيه ; فإن قولهما يدل على أنهما قربا الأمر ، والشيء الزائد عن القربتين مشكوك فيه ، مع أنه يقع على المجهول ، والظاهر قلته ; لأن لفظه يدل على تقارب ما بين الأمرين المذكورين ، وكلما قل الشيء كان أقرب إلى القربتين ، وكلام يدل على هذا ; فإنه روي عنه أن القلة قربتان ، وروي قربتان ونصف ، وروي : وثلث ، وهذا يدل على أنه لم يحد في ذلك حدا . أحمد
ثم ليس للقربة حد معلوم ; فإن القرب تختلف اختلافا كثيرا ، فلا يكاد قربتان يتفقان في حد واحد ، ولهذا لو اشترى منه شيئا مقدرا بالقرب ، أو أسلم في شيء محدود بالقرب ; لم يجز ذلك ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الناس لا يكيلون الماء ولا يزنونه ، فلم يكن ليعرفهم الحد بما لا يعرف به ، وإنما أراد أن من وجد ماء فيه نجاسة فظنه مقاربا للقلتين توضأ منه ، وإن ظنه ناقصا عنهما من غير مقاربة لهما تركه .
وفائدة هذا ، أن من اعتبر التحديد ، فنقص عن الحد شيئا يسيرا ، لم يعف عنه ، ونجس بورود النجاسة عليه ، ومن قال بالتقريب عفي عن النقص اليسير عنده ، وتعلق الحكم بما يقارب القلتين ، إن ففيه وجهان : أحدهما ، يحكم بطهارته ; لأنه كان طاهرا قبل وقوع النجاسة فيه ، وشك هل ينجس به أو لا ؟ فلا يزول اليقين بالشك . شك في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة أو لا يدفعها
والثاني يحكم بنجاسته ; لأن الأصل قلة الماء ، فنبني عليه ، ويلزم من ذلك النجاسة .