( 8410 ) الفصل الثالث : في شروطها  ، ولها أربعة شروط ; أحدها ، أن تتعذر شهادة الأصل ; لموت ، أو غيبة ، أو مرض ، أو حبس ، أو خوف من سلطان أو غيره . وبهذا قال  مالك  ،  وأبو حنيفة  ،  والشافعي    . وحكي عن  أبي يوسف  ،  ومحمد  ، جوازها مع القدرة على شهادة الأصل ، قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي  ، أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل ; لأنهما إذا كانا حيين ، رجي حضورهما ، فكانا كالحاضرين . 
وعن  أحمد  مثل هذا ، إلا أن  القاضي  تأوله على الموت ، وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها . ويمكن تأويل قول الشعبي  على هذا ، فيزول هذا الخلاف . 
ولنا ، على اشتراط تعذر شهادة شاهد الأصل ، أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل ،  [ ص: 198 ] استغني عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع ، وكان أحوط للشهادة ، فإن سماعه منهما معلوم ، وصدق شاهدي الفرع مظنون ، والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ، ولأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق ، وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ، ولأن في شهادة الفرع ضعفا ; لأنه يتطرق إليها احتمالان ; احتمال غلط شاهدي الأصل ، واحتمال غلط شاهدي الفرع ، فيكون ذلك وهنا فيها ، ولذلك لم تنتهض لإثبات الحدود والقصاص ، فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل ، كسائر الأبدال ، ولا يصح قياسها على أخبار الديانات ; لأنه خفف فيها ، ولهذا لا يعتبر فيها العدد ، ولا الذكورية ، ولا الحرية ، ولا اللفظ ، والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس ، بخلاف مسألتنا . 
ولنا ، على قبولها عند تعذرها بغير الموت ، أنه تعذرت شهادة الأصل ، فتقبل شهادة الفرع ، كما لو مات شاهدا الأصل ، ويخالف الحاضرين ; فإن سماع شهادتهما ممكن ، فلم يجز غير ذلك . إذا ثبت هذا ، فذكر  القاضي  أن الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع ، أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه . وهذا قاله  أبو يوسف  ،  وأبو حامد  من أصحاب  الشافعي    ; لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر ، وقد قال الله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد    } . وإذا لم يكلف الحضور ، تعذر سماع شهادته ، فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع . 
وقال  أبو الخطاب    : تعتبر مسافة القصر . وهو قول  أبي حنيفة  ،  وأبي الطيب الطبري  ، مع اختلافهم في مسافة القصر كل على أصله ; لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر ، في الترخص وغيره ، بخلاف مسافة القصر . ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم ، فلو شهد شاهدا الفرع ، فلم يحكم بشهادتهما حتى حضر شاهدا الأصل  ، وقف الحكم على سماع شهادتهما ; لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل ، فلم يجز العمل به ، كالمتيمم يقدر على الماء قبل الصلاة ، ولأن حضورهما لو وجد قبل أداء شهادة الفرع ، منع ، فإذا طرأ قبل الحكم ، منع منه ، كالفسق . الشرط الثاني ، أن تتحقق شروط الشهادة ، من العدالة وغيرها ، في كل واحد من شهود الأصل والفرع ، على الوجه الذي ذكرناه ; لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعا ، فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما . 
ولا خلاف في هذا نعلمه . فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل ، فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما ، جاز ، بغير خلاف نعلمه . وإن لم يشهدا بعدالتهما ، جاز ، ويتولى الحاكم ذلك ، فإن علم عدالتهما ، حكم ، وإن لم يعرفها بحث عنها . وبهذا قال  الشافعي    . وقال  الثوري  ،  وأبو يوسف    : إن لم يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل ، لم يسمع الحاكم شهادتهما ; لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم . 
وليس بصحيح ; لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك ، فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ، ويجوز أن  [ ص: 199 ] يعرفا عدالتهما ويتركاها ، اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما ، ولا بد من استمرار هذا الشرط ، ووجود العدالة في الجميع إلى انقضاء الحكم ; لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا . وإن مات شهود الأصل والفرع ، لم يمنع الحكم ، وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع شهادتهم  ، لم يمنع من أدائها ، والحكم بها ; لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم ، فلا يجوز جعله مانعا ، وكذلك إن جنوا ; لأن جنونهم بمنزلة موتهم . 
الشرط الثالث ، أن يعينا شاهدي الأصل ، ويسمياهما . وقال  ابن جرير    : إذا قالا : ذكرين ، حرين ، عدلين جاز ، وإن لم يسميا ; لأن الغرض معرفة الصفات دون العين . وليس بصحيح ; لجواز أن يكونا عدلين عندهما ، مجروحين عند غيرهما ; ولأن المشهود عليه ربما أمكنه جرح الشهود ، فإذا لم يعرف أعيانهما ، تعذر عليه ذلك . الشرط الرابع ، أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة ، فيقول : اشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا ، أو أقر عندي بكذا . أو سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهده عليها ، فيجوز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ، ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه . وهو قول  أبي حنيفة    . 
قال  أحمد    : لا تكون شهادة إلا أن يشهدك ، فأما إذا سمعته يتحدث ، فإنما ذلك حديث . وبما ذكرناه قال  الشافعي  ، وأصحاب الرأي ،  وأبو عبيد    . فأما إن سمع شاهدا يشهد عند الحاكم بحق ، أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب ، نحو أن يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألفا من ثمن مبيع . فهل يشهد به  ؟ . قال  أبو الخطاب    : فيه روايتان . وذكر  القاضي  ، أن له الشهادة به . 
وهو مذهب  الشافعي    ; لأنه بالشهادة عند الحاكم ، ونسبته للحق إلى سببه ، يزول الاحتمال ، ويرتفع الإشكال ، فتجوز له الشهادة على شهادته ، كما لو استرعاه والرواية الأخرى ، لا يجوز أن يشهد على شهادته . وهو قول  أبي حنيفة  ،  وأبي عبيد    ; لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة ، فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال : هذا ينقل شهادته ، ولا ينوب عنه ; لأنه لا يشهد مثل شهادته ، وإنما يشهد على شهادته فأما إن قال : أشهد أني أشهد على فلان بكذا . فالأشبه أن يجوز أن يشهد على شهادته . وهذا قول  أبي يوسف  لأن معنى ذلك : اشهد على شهادتي وقال  أبو حنيفة    : لا يجوز إلا أن يقول : اشهد على شهادتي أني أشهد . 
لأنه إذا قال : اشهد . فقد أمره بالشهادة ، ولم يسترعه . وما عدا هذه المواضع ، لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة ، فإذا سمعه يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته ; لأنه لم يسترعه الشهادة ، فيحتمل أن يكون وعده بها . وقد يوصف الوعد بالوجوب مجازا ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العدة دين   } . ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم ، فلم يجز لسامعه الشهادة به . 
فإن قيل : فلو سمع رجلا يقول : لفلان علي ألف درهم . جاز أن يشهد بذلك ، فكذا  [ ص: 200 ] هذا . قلنا : الفرق بينهما من وجهين ; أحدهما ، أن الشهادة تحتمل العلم ، ولا تحتمل الإقرار . الثاني ، أن الإقرار أوسع في لزومه من الشهادة ; بدليل صحته في المجهول ، وأنه لا يراعى فيه العدد ، بخلاف الشهادة ، ولأن الإقرار قول الإنسان على نفسه ، وهو غير متهم ، فيكون أقوي منها ، ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ، ولا يحكم بها . 
ولو قال شاهد الأصل : أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفا ، فاشهد به أنت عليه    . لم يجز أن يشهد على شهادته ; لأنهما شهادته ، فيشهد عليها ، ولا هو شاهدا بالحق ; لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ، ولا شاهد سببه . 
				
						
						
