ومنها شيء يصح ويظن من لا ينعم النظر أنه يوافق ما ذهبوا إليه - على ما نورد إن شاء الله تعالى - ولا حجة في قول صاحب قد خالفه غيره منهم . وأما دعوى الإجماع فإنهم قالوا : قد صح الإجماع على تحريم ، واختلف فيما عداه - فلا يحرم شيء باختلاف . قال عصير العنب إذا أسكر : وهذا قول في غاية الفساد لأنه يبطل عليهم جمهور أقوالهم ، ويلزمهم أن لا يوجبوا زكاة إلا حيث أوجبها إجماع ، ولا فريضة حج أو صلاة إلا حيث صح الإجماع على وجوبها ، وأن لا يثبتوا الربا إلا حيث أجمعت الأمة على أنه ربا - ومن التزم هذا المذهب خرج عن دين الإسلام بلا شك لوجهين - : أحدهما : أنه مذهب مفترى لم يأمر الله تعالى به قط ولا رسوله عليه السلام ; وإنما أمر الله تعالى باتباع القرآن ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر باتباع الإجماع ، ولم يأمر تعالى قط بأن لا يتبع إلا الإجماع ، ولا قال تعالى قط ، ولا رسوله عليه السلام : لا تأخذوا مما اختلف فيه إلا ما أجمع عليه - ومن ادعى هذا فقد افترى على الله الكذب وأتى بدين مبتدع وبالضلال المبين . إنما قال تعالى : { أبو محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } وقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ولم يقل تعالى : فردوه إلى الإجماع ، فمن رد ما تنوزع فيه إلى الإجماع لا إلى نص القرآن والسنة فقد عصى الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى . وأما نحن فنتبع الإجماع فيما صح أنهم أجمعوا عليه ولا نخالفه أصلا ، ونرد ما تنوزع فيه إلى القرآن ، والسنة ، فنأخذ ما فيهما وإن لم يجمع على الأخذ به - وبهذا أمر الله تعالى في القرآن ورسوله صلى الله عليه وسلم وعليه أجمع أهل الإسلام وما نعلم [ ص: 180 ] أحدا قال قط : لا ألتزم في شيء من الدين إلا ما أجمع الناس عليه ; فقد صاروا بهذا الأصل مخالفين للإجماع بلا شك . والوجه الثاني : أنه مذهب يقتضي أن لا يلتفت للقرآن والسنن إذا وجد الاختلاف في شيء من أحكامهما ، وليس هذا من دين الإسلام في شيء مع أنه في أكثر الأمر كذب على الأمة وقول بلا علم . وأيضا فإنهم لا يلتزمون هذا الأصل الفاسد إلا في مسائل قليلة جدا - وهو مبطل لسائر مذاهبهم كلها فعاد عليهم - وبالله تعالى التوفيق . وأما الأخبار : فمنها خبر صح عن قال : حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والمسكر من كل شراب - : ورويناه من طريق ابن عباس نا قاسم بن أصبغ أحمد بن زهير نا عن أبو نعيم الفضل بن دكين عن مسعر أبي عون عن عن عبد الله بن شداد - ولا حجة لهم فيه ، لأننا رويناه من طريق ابن عباس أحمد بن شعيب أنا نا الحسين بن منصور نا أحمد بن حنبل محمد بن جعفر غندر نا عن شعبة عن مسعر أبي عون عن عن عبد الله بن شداد قال : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها ، والمسكر من كل شراب ابن عباس بلا خلاف أضبط وأحفظ من وشعبة أبي نعيم . وقد روى فيه زيادة على ما روى أبو نعيم ، وزيادة العدل لا يحل تركها ، وليس في رواية أبي نعيم ما يمنع من تحريم غير ما ذكرنا في روايته إذا جاء بتحريمه نص صحيح . وقد صح من طريق تحريم المسكر جملة - وصح عنه كما ذكرنا آنفا تحريم نبيذ البسر بحتا فسقط تعلقهم بهذا الخبر . ومنها : خبر رويناه من طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه { ابن عباس فانتبذوا فيها - يعني في الظروف - فإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرم ولا تسكروا } وأن قال له { عمر يا رسول الله ما قولك : كل مسكر حرام ؟ قال : اشرب ، فإذا خفت فدع } . وخبر : من طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم { أبي موسى الأشعري } وكلاهما لا حجة لهم فيه . [ ص: 181 ] وأما خبر اشربا ولا تسكرا : فإنه من طريق ابن عباس المشمعل بن ملحان وهو مجهول عن النضر بن عبد الرحمن خزاز بصري يكنى أبا بكر - منكر الحديث ضعفه وغيره ، وقال فيه البخاري ابن معين : لا تحل الرواية عنه - ولو صح لم يكن لهم فيه حجة ، لأن فيه النهي عن السكر ويكون قوله { فإذا خفت فدع } أي إذا خفت أن يكون مسكرا - فسقط التعلق به . وأما خبر أبي موسى : فلا يصح لأنه من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عن أبي بردة أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم وشريك مدلس وضعيف فسقط . وقد رواه الثقات بخلاف هذا - : كما روينا من طريق ، عمر بن دينار ، وزيد بن أبي أنيسة ، كلهم عن وشعبة بن الحجاج سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أبي موسى الأشعري } فهذا هو الحق الثابت لا رواية كل ضعيف ، ومدلس ، وكذاب ، ومجهول . وخبر رويناه عن : كل مسكر حرام ، كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أبي بردة } - وهذا لا يصح لأنه من رواية اشربوا في الظروف ولا تسكروا سماك بن حرب عن عن أبيه عن القاسم بن عبد الرحمن أبي بردة يقبل التلقين شهد عليه بذلك وسماك ، وغيره . ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأنه إنما فيه النهي عن السكر وليس فيه مانع من تحريم ما يصح تحريمه مما لم يذكر في هذا الخبر . وقد صح تحريم كل ما أسكر كما ذكرنا من أصح طريق ولله الحمد . وخبر : من طريق شعبة سوار بن مصعب ، وسعيد بن عمارة ، قال سوار : عن عطية العوفي عن ، وقال أبي سعيد سعيد : عن الحارث بن النعمان عن ، ثم اتفق أنس أبو سعيد قالا عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وأنس } حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب وسوار مذكور بالكذب ، هالك ، وعطية والحارث ، وسعيد مجهولان لا يدرى من هما ثم لو صح لم تكن فيه حجة لأن رواية عن شعبة عن مسعر أبي عون عن عن عبد الله بن شداد التي ذكرنا آنفا زائدة على هذه الرواية ، وزيادة العدل لا يجوز ردها . وخبر : روي فيه { ابن عباس لعبد القيس اشربوا ما طاب لكم } رويناه [ ص: 182 ] من طريق أنه عليه السلام قال عن ابن أبي شيبة ملازم بن عمرو عن عجيبة بن عبد الحميد عن عمه قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا لا حجة فيه لوجوه - : أولها : أنه من رواية عجيبة بن عبد الحميد وهو مجهول لا يدرى من هو - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن ما طاب لنا هو ما أحل لنا كما قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } فليس في شيء من هذا إباحة ما قد صح تحريمه . وخبر : رويناه من طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه { عبد الله بن عمرو بن العاص } وقال : { نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء } قالوا : فقد فرق عليه السلام بين الكوبة ، والغبيراء ، والخمر ، فليسا خمرا . قال كل مسكر حرام : وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق أبو محمد الوليد بن عبدة وهو مجهول - وأما كونه حجة عليهم فإنه لو صح لكان عليه السلام قد ساوى بين كل ذلك في النهي والخمر وسائر الأشربة سواء في النهي عنها وهذا خلاف قولهم . وأيضا : فليس التفريق في بعض المواضع في الذكر دليلا على أنهما شيئان متغايران فقد قال تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } لم يكن هذا موجبا أنهما عليهما السلام ليسا من الملائكة . وهكذا إذا صح أن الخمر هي كل مسكر لم يكن ذكر الخمر والكوبة والغبيراء مانعا من أن تكون الكوبة والغبيراء خمرا - وقد صح { } وأيضا : ففي آخر هذا الحديث { أن كل مسكر خمرا } وهذا خلاف قولهم - فما رأينا أقبح مجاهرة من احتجاجهم بما هو حجة عليهم ؟ وخبر : رويناه من طريق { كل مسكر حرام أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بنبيذ فوجده شديدا فرده فقيل : أحرام هو ؟ قال : فاسترده ثم دعا بماء فصبه فيه مرتين ثم قال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء ابن عمر } . ومن طريق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله ، وفيه أنه عليه السلام قال : { ابن عباس } ومثله من طريق إذا اشتد عليكم فاكسروه بالماء أبي مسعود [ ص: 183 ] وكل هذا لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم ، لأن خبر هو من طريق ابن عمر عبد الملك بن نافع وعبد الملك ابن أخي القعقاع كلاهما عن مسندا ، وكلاهما مجهول وضعيف سواء كانا اثنين أو كانا إنسانا واحدا ، ثم هو عنهما من طريق ابن عمر أسباط بن محمد القرشي ، ، وليث بن أبي سليم وقرة العجلي ، ; وكلهم ضعيف . وأما خبر والعوام : فهو من طريق ابن عباس عن يزيد بن أبي زياد عكرمة عن - ابن عباس ويزيد ضعيف ، وقد روينا عنه في الروايات السود خبرا موضوعا على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أحد يتهم غيره - وقد ضعفه ، وأحمد ، ويحيى . وأما خبر شعبة أبي مسعود فهو من طريق ، يحيى بن يمان وعبد العزيز بن أبان وكلاهما متفق على ضعفه - ثم لو صحت لكانت أعظم حجة عليهم ، لأن فيها كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم مزجه بالماء ثم شربه - وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين - : إما أن لا يكون ذلك النبيذ مسكرا فهي كلها موافقة لقولنا . وإما أن يكون مسكرا كما يقولون ، فإن كان مسكرا فصب الماء على المسكر عندهم لا يخرجه عندهم عن التحريم إلى التحليل ، ولا ينقله عن حاله أصلا إن كان قبل صب الماء حراما فهو عندهم بعد صبه حرام . وإن كان قبل صبه حلالا فهو بعد صبه حلال ، وإن كان قبل صبه مكروها فهو بعد صبه مكروه ، فقد خالفوه كلها وجعلوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي حققوه عليه باطلا عندهم ولغوا لا معنى له ، وهذا كما ترى . وإن كان صب الماء نقله عن أن يكون مسكرا إلى أن لا يكون مسكرا فلا متعلق لهم فيه حينئذ أصلا ، لأنه إذا لم يكن مسكرا فلا نخالفهم في أنه حلال - فعاد عليهم جملة . وخبر : من طريق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { أبي هريرة } وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق اشربوا ما طاب لكم فإذا خبث فذروه عن عبد الحميد بن بهرام - وكلاهما ساقط . ثم لو صح لكان حجة قاطعة عليهم ; لأن معنى " إذا خبث " إذا أسكر ، لا يحتمل غير هذا أصلا ، وإلا فليعرفونا ما معنى { شهر بن حوشب } . [ ص: 184 ] وخبر : من طريق إذا خبث فذروه { علي بمكة بنبيذ فذاقه فقطب ورده ؟ فقيل له : يا رسول الله هذا شراب أهل مكة ؟ قال : فرده فصب عليه الماء حتى رغا ، قال : حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب } . وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه من طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أتي محمد بن الفرات الكوفي - وهو ضعيف باتفاق - مطرح - ثم عن الحارث - وهو كذاب . ومن طريق شعيب بن واقد وهو مجهول عن قيس بن قطن ولا يدرى من هو - ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن الكلام فيه كالكلام فيه من طريق وقد ذكرناه . وخبر : من طريق ابن عباس سمرة { } - ولا حجة فيه لأنه من طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في النبيذ بعدما نهى عنه المنذر أبي حسان - وهو ضعيف - ثم لو صح لكان معناه أذن في النبيذ في الظروف بعدما نهى عنه ، وهذا حق وليس فيه أنه عليه السلام نهى عن الخمر ، ثم أذن فيها - وقد صح أنه عليه السلام قال : { } فبطل تعلقهم به - ولله الحمد . وخبر : عن كل مسكر خمر { ابن عباس } وهذا لا حجة لهم فيه لأنه فضيحة الدهر موضوع بلا شك - : رواه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام فقال له رجل : إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا ؟ قال : ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر لا بأس وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام : ضعيف - عن أبو بكر بن عياش : كذاب مشهور - عن الكلبي أبي صالح : هالك . وخبر : فيه النهي عن النبيذ في الجرار الملونة والأمر بأن ينبذ في السقاء فإذا خشي فليسجه بالماء - فهذا من طريق أبان وهو الرقاشي ، وهو ضعيف - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ، بل هو حجة عليهم ، لأن فيه إذا خشي فليسجه بالماء ، ومعناه إذا خشي أن يسكر بإجماعهم معنا - لا يحتمل غير هذا أصلا ، فإذا سج بالماء بطل إسكاره - وهذا لا نخالفهم فيه وليس فيه أن بعد إسكاره يسج إنما فيه " إذا خشي " وهذا بلا شك قبل أن يسكر . وخبر مرسل : من طريق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سعيد بن المسيب } ، وهذا لا شيء ، لأنه لا حجة في مرسل - ثم هو أيضا [ ص: 185 ] من طريق الخمر من العنب ، والسكر من التمر ، والمزر من الحنطة ، والبتع من العسل ، وكل مسكر حرام ، والمكر والخديعة في النار ، والبيع عن تراض وهو مذكور بالكذب ، ثم لو صح لكان حجة عليهم لأن فيه { إبراهيم بن أبي يحيى } وهو خلاف قولهم وليس في قوله { كل مسكر حرام } مانع من أن تكون من غير العنب أيضا إذا صح بذلك نص . وقد صح قوله عليه السلام { إن الخمر من العنب } فسقط تعلقهم به . وخبر : من طريق كل مسكر خمر عن سفيان الثوري علي بن بذيمة عن قيس بن حبتر النهشلي عن { ابن عباس } ، فهذا من طريق أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت ، وأمر بأن ينبذ في الأسقية ، قالوا : فإن اشتد في الأسقية يا رسول الله قال : فصبوا عليه الماء ، وقال لهم في الثالثة أو الرابعة : أهريقوه فإن الله حرم الخمر ، والميسر ، والكوبة ، وكل مسكر حرام قيس بن حبتر - وهو مجهول ثم لو صح لكان أعظم حجة لنا عليهم ، لأنه مخالف كله لقولهم ، موافق لقولنا في الأمر بهرقه ، وقوله { } كفاية لمن كان له مسكة عقل فاعجبوا لقوم يحتجون بما هو نص مخالف لقولهم إن الحياء ههنا لعدم ؟ وخبر من طريق وكل مسكر حرام أبي القموص زيد بن علي عن رجل من عبد القيس - نحسب أن اسمه قيس بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } اشربوا في الجلد الموكى عليه فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن أعياكم فأهريقوه أبو القموص مجهول - ثم لو صح لكان حجة قاطعة موافقة لقولنا مفسدة لقولهم بما فيه من الأمر بهرقه إن لم يقدر على إبطال شدته بالماء .